وهو طلب الفعل على جهة الاستعلاء والإلزام وله أربع صيغ:
§
فعل الأمر: نحو قوله تعالى: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا
مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ
خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾([1]). فالفعل "قل" هو فعل أمر يأمر به الحق سبحانه
المؤمنين، ويطلب حصول الفعل. ومنه قوله تعالى: ﴿وَاصْنَعْ
الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا﴾([2]). ومن ذلك قول الشاعر([3]):
[الرمل]
اعتزلْ ذكرَ الأغاني والغزلْ
ودعِ الذكرى لأيامِ الصِّبا |
وقلِ الفصلَ وجانبْ مَنْ هَزَلْ
فلأيامِ الصِّبا نجمٌ أَفَلْ |
ومنه قوله تعالى: ﴿فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي
عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّه﴾([5]).
§
اسم فعل الأمر: نحو "صه" بمعنى: "اسكت" و"مَهْ"
بمعنى: "اكفف"، و"عليك" بمعنى: "الزم" يقول الله
تعالى: ﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ
إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾([6]).
§
المصدر النائب عن فعل الأمر: كقوله تعالى: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ
إِحْسَاناً﴾([7]). أي وأحسنوا بهما. ومنه قوله تعالى: ﴿فَإِذا
لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ
فَشُدُّوا الْوَثَاقَ﴾([8]). ومن ذلك قول الشاعر([9]):
[مجزوء الكامل]
صَبراً على نُوَبِ الزَّما
|
نِ وإِنْ أَبى القلبُ الَجرِيحْ
|
فكلمة صبرا نابت عن فعل اصبر.
وقد ورد في مفهوم الأمر: طلب حصول الفعل على جهة الاستعلاء. ويعني ذلك أن
الأعلى يطلب من الأدنى حصول الفعل وتحقيقه. إلا أن استعمال الأمر قد يفيد أمورا
أخرى تستفاد من السياق حسب قرائن الأحوال ومن ذلك:
أ-الدعـاء: وهو التضرع
ومنه: ﴿قَالَ
رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25)
وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)
وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِِّسَانِي (27)
يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([10]). ومنه أيضا قوله تعالى: ﴿رَبِّ اجْعَلْ
هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾([11]). ويتضح أن الأمر في هذه الآيات بمعنى التضرع وهو موجه
من الأدنى إلى الأعلى.
فالحق سبحانه وجل لا يأمره أحد من خلقه. وللتعبير بأسلوب الأمر هنا في مقام
الدعاء فائدة إظهار الخضوع وبيان شدة الرغبة في تحقيق تلك الأفعال حتى صارت كأنها
أمور مطلوبة من الله تعالى. وانظر إلى قول المتنبي يخاطب سيف الدولة: [الطويل]
أَزِلْ حَسََدَ الحُسّادِ عَنّي بِكَبتِهِم
|
فَأَنتَ الَّذي صَيَّرتَهُم لِيَ حُسَّدا
|
وقوله: [الطويل]
أَخا الجُودِ أَعطِ الناسَ ما أَنتَ مالِكٌ
|
وَلا تُعطِيَنَّ الناسَ ما أَنَا قائِلٌ
|
تجد المتنبي متوسلا بأسلوب الأمر: "أزل وأعط" ولا يأمر سيف
الدولة في الحقيقة على جهة الإلزام والتكليف، بل يريد التوسل والدعاء. وما
استعماله لأسلوب الأمر إلا رغبة في تحقيق غاياته ومطلبه من سيف الدولة.
ب-الالتمـاس: وهو طلب من متساويين. ويكون عادة عند خطاب من يساويك في الرتبة، وهو على
سبيل التلطف لا على سبيل الاستعلاء، كما في قول امرئ القيس: [الطويل]
قِفا نَبكِ مِن ذِكرى حَبيبٍ وَمَنزِلِ
|
بِسِقطِ اللِّوى بَينَ الدَخولِ فَحَومَلِ
|
فالشاعر يتخيل صاحبين ويلتمس منهما الوقوف معه للبكاء في مكان أثير لديه.
وتوظيف صيغة الأمر هنا لا يفيد الالزام وإنما "الالتماس" فالخطاب من ند
إلى نده. ومثله قول الشاعر كثير([12]):
[الطويل]
خَليلَيَّ هَذا رَبْعُ عَزَّةَ فَاعقِلا
|
وهو يطلب من خليليه الوقوف على ربع "عزة" وفاء لها، والبكاء عليه
لخلوه من ساكنيه. فجاء التعبير بصيغة الأمر في مقام "الالتماس" تعبيرا
عن انفعال الشاعر، وكأن البكاء غير مطلوب منه لمفرده، بل من الجميع ممن معه من
خلانه.
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ
أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾([14]).
ج-التمنـي: وهو طلب مالا
طمع فيه أو فيه عسر، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا
أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ﴾([15]). فقد طلبوا الخروج من النار وأنى لهم الخروج منها،
ولكنه التمني. وانظر إلى قول امرئ القيس: [الطويل]
أَلا أَيُّها اللَيلُ الطَويلُ أَلا انجَلي
|
بِصُبحٍ وَما الإِصباحُ مِنكَ بِأَمثَلِ
|
فقد كثرت هموم الشاعر حتى هجره النوم، وتمنى انجلاء الليل وبزوغ الإصباح،
ولم يلبث أن عاد إلى الواقع "وما الإصباح منك بأمثل" فأنت وهو سواء،
وإنما طلب الشاعر الصباح حتى يتخلص من حلكة الظلام على الأقل وإن لم يكن ذلك مانعا
من تكالب الهموم. ولم يكن توظيف فعل الأمر في قوله "انجلي" طلبا على جهة
الاستعلاء، فالليل لا يخاطب ولا يلبي طلبا، وإنما كان على جهة التمني.
يا دارَ عَبلَةَ بِالجَواءِ تَكَلَّمي
|
َوعمِي صَباحاً دارَ عَبلَةَ وَاسلَمي
|
وقول أبي العلاء المعري: [الطويل]
فيا موْتُ زُرْ إنّ الحياةَ ذَمِيمَةٌ
|
ويا نَفْسُ جِدّي إنّ دهرَكِ هازِل
|
فالموت لا يقبل بالزيارة إذ تدعوه، ولكن أبا العلاء تمنى الموت حين أحس
بتأخره.
د-التهديـد: ويكون في مقام عدم الرضا بالمأمور به. نحو قوله تعالى: ﴿اعْمَلُوا مَا
شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾([17]). ومنه قوله تعالى: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ
أَندَاداً لِّيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ
إِلَى النَّارِ﴾([18]).
فصيغة الأمر في قوله "تمتعوا" تفيد التهديد لا الامتثال. وانظر
إلى قوله r : «إذا لم تستحي فاصنع ما
شئت». تجد الأمر في قوله "اصنع" يفيد التهديد والوعيد لا الإلزام
والامتثال، بمعنى عليك أن تصنع ما شئت. وإنما الغرض "حذارِ مما تصنع فأنت
محاسب عليه".
هـ-التعجيـز: وهو مطالبة المخاطب بما لا يستطيع، ويكون في مقام إظهار عجز من يدعي
القدرة على فعل أمر ما وليس في وسعه ذلك. كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ
كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِن مِّثْلِهِ﴾([19]).
فليس الأمر في قوله تعالى "فائتوا" بمعنى التكليف والإلزام، بل
بمعنى التعجيز. أي: "إن الله لا يأمرهم بالإتيان بسورة، بل يتحداهم أن تأتوا
بسورة". ولهذا قيل إن صيغة الأمر هنا في قوله "ايتوا" لا تعني
الأمر، أي طلب الشيء على جهة الاستعلاء المفيد للإلزام، وإنما تفيد التعجيز أي مطالبة
المخاطب بما لا يستطيع. وسر التعبير بالأمر في مقام التعجيز إبراز قوة التحدي.
ومنه أيضا قوله تعالى: ﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي
مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾([20]). ومن التعجيز قول الفرزدق: [الطويل]
أولَئِكَ آبائي فَجِئني بِمِثلِهِم
|
إِذا جَمَعَتنا يا جَريرُ الَمجامِعُ
|
فالفرزدق يتحدى جريرا أن يأتيه بمثل آبائه، وصيغة الأمر في قوله
"فجئني" تفيد التعجيز لا التكليف والإلزام، كأن الشاعر أراد أن يقول:
"لن يكون بوسعك أن تجيئني بمثلهم وأتحداك أن تفعل".
و-التسويـة: وهي طلب يوحي بأن الشيئين المراد فعلهما سواء. وتكون في مقام توهم رجحان
أحد الأمرين على الآخر. نحو قوله تعالى: ﴿اصْلَوْهَا
فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ﴾([21]). فالأمر وعدمه يستويان هنا في عدم النفع، وذلك دفعا لما
يعتقد بأن الصبر نافع للكفار في عذاب يوم القيامة. وانظر إلى قوله تعالى: ﴿قُلْ
أَنفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُُّتَقَبَّلَ مِنْكُمْ﴾([22]). فعدم القبول يستوي منكم سواء أأنفقتم طوعا أم كرها.
وذلك أن الله سبحانه قد علم من حالهم عدم الاهتداء، وربما يعتقد المخاطب أن
الإنفاق طواعية يكون مقبولا منهم فدفع ذلك بالتسوية بين الطواعية والكراهية.
ز-التحقيـر: وهو طلب يحمل محمل الإهانة، ويكون في مقام عدم الاعتداد بالمخاطب.
ومثله قوله تعالى: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنَتََ الْعَزِيزُ
الْكَرِيمُ﴾([23]). فالكافر ليس عزيزا كريما، ولا ويمكنه أن يذوق شيئا
طيبا لأنه يعاني غصص العذاب وأكداره، ولهذا جاء أسلوب الأمر هنا محملا بمعاني
التهكم والسخرية والتحقير والاستهزاء بكل منحرف عن الحق ساع إلى الضلال، وكل من
كان هذا شأنه فلا عزة ولا كرامة له، وإنما ذلة ومهانة.
ومثله قوله تعالى: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ
لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾([24]). فالأمر بالتبشير يحمل معاني الإهانة والتحقير
للمنافقين. وانظر إلى قول الشاعر([25]):
[الكامل]
فدَعِ الوعيدَ فما وعيدُكَ ضائري
|
أطَنينُ أجنِحَةِ البعوضِ يضيرُ؟
|
فأمر المخاطب بترك الوعيد يشعر بحقارته إذ يتوعد ويهدد، وليس في وسعه أن
يحقق وعيده، بل إن وعيده يشبه طنين أجنحة الذباب وهو طنين لا يكاد يسمع.
ح-النصـح والإرشـاد: وهو طلب يخلو من التكليف وفيه نصيحة. ومنه قوله تعالى: ﴿يَا بُنَيَّ
أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ
عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾([26]).
ففي الآية يوصي لقمان ابنه بتلك الفضائل، ولم يرد الأمر هنا بصيغة الإلزام، فاقتضى
المقام أن تكون للنصح والإرشاد. ومنه قول الشاعر([27]):
[البسيط]
أحسِنْ إلى النّاسِ تَستَعبِدْ قُلوبَهُمُ
|
فطالَما اسْتَعْبَد الإنسانَ إحسانُ
|
فتجد الأمر في قوله
"أحسن" لا يفيد الإلزام وإنما النصح والإرشاد.
([3])- ابن الوردي (749هت) عمر بن
مظفر بن عمر بن محمد بن أبي الفوارس أبو حفص زين الدين بن الوردي المعري الكندي.
شاعر أديب مؤرخ، ولد في معرة النعمان (بسورية) وولي القضاء بمنبج وتوفي بحلب. وتنسب إليه اللامية التي أولها: (اعتزل ذكر
الأغاني والغزل) من كتبه (ديوان شعر-ط)، فيه بعض نظمه ونثره. و(تحرير الخصاصة في
تيسير الخلاصة-خ) نثر فيه ألفية ابن مالك في النحو، وغيرها وهو كثير.
([9])- ابن نباتة السعدي
(327-405هـ/938-1014م) عبد العزيز بن عمر بن محمد بن نباتة التميمي السعدي أبو
نصر. من شعراء سيف الدولة بن حمدان طاف بالبلاد ومدح الملوك واتصل بابن العميد في
الري ومدحه. قال أبو حيان: شاعر الوقت حسن الحذو على مثال سكان البادية لطيف
الائتمام بهم خفي المغاص في وأديهم هذا مع شعبة من الجنون وطائف من الوسواس. وقال
ابن خلكان: معظم شعره جيد توفي ببغداد. له (ديوان شعر-ط) وأكثره في مختارات
البارودي.
([12])- كثير عزة (105هـ) كثير بن عبد
الرحمن بن الأسود بم مليح من خزاعة وأمه جمعة بنت الأشيم الخزاعية. شاعر متيم
مشهور، من اهل المدينة، أكثر إقامته بمصر ولد في آخر خلافة يزيد بن عبد الملك،
وتوفي والده وهو صغير السن وكان منذ صغره سليط اللسان. واشتهر بحبه لعزة فعرف بها
وعرفت به وهي: عزة بنت حميل بن حفص من بني حاجب بن غفار كنانية النسب كناها كثير
في شعره بأم عمرو.
([16])- عنترة بن شداد (22ق.هـ) عنترة
بن شداد بن عمرو بن معاوية بن قراد العبسي. أشهر فرسان العرب في الجاهلية ومن
شعراء الطبقة الأولى. من أهل نجد. أمه حبشية اسمها زبيبة، كان من أحسن العرب شيمة
ومن أعزهم نفسا، يوصف بالحلم على شدة بطشه، وفي شعره رقة وعذوبة. كان مغرما بابنة
عمه عبلة فقل أن تخلو له قصيدة من ذكرها. وعاش طويلا، وقتله الأسد الرهيص أو جبار
بن عمرو الطائي.
([27])- أبو الفتح البستي (400هـ) علي
بن محمد بن الحسين بن يوسف بن محمد بن عبد العزيز البستي. ولد في بست (قرب سجستان)
وإليها ينسب، وكان من كتاب الدولة السامانية في خراسان وارتفعت مكانته عند الأمير
سبكتكين. له (ديوان شعر-ط) صغير، فيه بعض شعره، وفي كتب الأدب كثير من نظمه غير
مدون. وهو صاحب القصيدة المشهورة التي مطلعها: (زيادة المرء في دنياه نقصان).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق