المسند إليـه:
هو الركن الأساسي في
الجملة؛ سواء أكانت اسمية أم فعلية. فهو المحكوم له أو المخبر عنه. وتفوق أهميته
أهمية المسند. وتكمن في كونه يمثل الركن الثابت في حين يمثل المسند الركن المتغير.
والإسناد هو بناء
الجملة أو تكوين العبارة أو ضم كلمة إلى كلمة لأجل إنشاء نظم معبر وكلام مفيد.
ويتم الإسناد عن طريق المجاز كما يتم عن طريق الحقيقة.
فمن المجاز قولك: "ربحت التجارة". ومن الحقيقة قولك: "ربح زيد في
تجارته".
وتتكون الجملة من مسند
ومسند إليه وأحد متعلَّقات الفعل -إن وجد- كالمفعول والظرف والمصدر
والجار والمجرور. ويكون المسند إليه إما مبتدأ أو فاعلا أو نائبا عنه أو اسما لإنّ
وأخواتها أو كان وأخواتها أو المفعول الأول لظن وأخواتها أو المفعول الثاني لأعلم
وأخواتها:
-المبتدأ:
"الجو معتدل": الجو: مسند إليه،
معتدل: مسند
-الفاعل:
"قام زيد": زيد: مسند إليه، قام: مسند
-اسم كان:
"كان البحر هائجا": البحر: مسند إليه، هائجا: مسند.
-المفعول الأول لظن:
"ظننت السماء قبة": السماء: مسند إليه، قبة: مسند
-المفعول الثاني
لأعلم: "أعلمت الحارس الطلاب
حاضرين": الطلاب: مسند إليه، حاضرين:
مسند.
-نائب الفاعل:
"ضرب الولد": الولد: مسند إليه، ضرب: مسند.
-اسم إن:
"إن المطر غزير": المطر: مسند إليه، غزير: مسند.
·
أحوال
المسند إليه:
1-الذكر والحذف:
أ-ذكر المسند إليه:
يذكر المسند إليه إذا
كان ذكره لازما؛ لا يقوم الحذف مقامه لعدم وجود قرينة تدل عليه في حالة الحذف،
ويكون ذكره لأغراض منها:
-تخصيصه بالخبر حين
يكون الخبر عاما بالنسبة لكل مسند إليه.
كما في قولنا:
"زيد جاء"
أي؛ زيد وليس غيره. وقول أبي ذؤيب الهذلي([1]):
[الكامل]
وَالنَفسُ راغِبَةٌ إِذا رَغَّبتَها
|
وَإِذا تُرَدُّ إِلى قَليلٍ تَقنَعُ
|
-بسط الكلام عندما يكون إصغاء السامع مطلوبا. ومن ذلك قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: ﴿وَمَا تِلْكَ
بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17)
قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ
فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾([2]).
فقد كان يكفي. الجواب: "عصا"، ولكن موسى عليه السلام رغبة منه في بسط
الكلام إذ هو في حضرة ربه ذكر المسند إليه "هي" وأضاف العصا إليه
"عصاي" ثم تحدث عن بعض مآربه منها.
-التبرك بذكره أو استلذاذه: نحو: الله ربي، الله حسبي، الله خالقي، الله رازقي.
ومنه قول الشاعر: [البسيط]
لَيْلَى، مُنَادٍ دَعَا لَيْلَى فَخفَّ لهُ
ليلَى، نداءٌ بليلى رنَّ في أُذُنِي |
نشوانُ في جَنَبَاتِ الصَّدْرِ عِربِيدُ
سِحْرٌ لَعَمْرِي لَه فِي النَّفس ترْديدُ |
أَلا لَيتَ لُبنى لَم تَكُن لِيَ خُلَّةً
|
وَلَم تَرَني لُبنى وَلَم أَدْرِ ما هِيا
|
-إظهار تعظيمه: نحو قولنا: "محمد رسول الله r".
-إظهار إهانته: نحو "زيد سارق"، جوابا لمن يسأل عن السارق.
-التعريض بغباوة السامع: نحو المغرب بلد إفريقي. لمن يسأل: هل المغرب بلد إفريقي؟
-التسجيل على السامع حتى لا يتأتى له الإنكار: نحو قول القاضي: هل كان زيد متزوجا بفاطمة؟ فيجيب
الشاهد: كان زيد متزوجا بفاطمة. ومنه قول الفرزدق في علي بن الحسين وقد أنكر هشام
بن عبد الملك معرفته: [البسيط]
هَذا الَّذي تَعرِفُ البَطحاءُ وَطْأَتَهُ
هَذا ابنُ خَيرِ عِبادِ اللهِ كُلِّهِمُ هَذا ابنُ فاطِمَةٍ إَن كُنتَ جَاهِلَهُ وَلَيسَ قَولُكَ مَنْ هَذا بِضائِرِهِ |
وَالبَيتُ يَعرِفُهُ وَالِحلُّ وَالحَرَمُ
هَذا التَّقِيُّ النَّقِيُّ الطاهِرُ العَلَمُ بِجَدِّهِ أَنبِياءُ اللهِ قَد خُتِموا العُرْبُ تَعرِفُ مَن أَنكَرتَ وَالعَجَمُ |
فقد كرر المسند إليه مضيفا إليه تلك الصفات تسجيلا على المخاطب المنكر حتى
لا يتأتى له الإنكار بعدئذ. ولم يعتبر الفرزدق إنكار المنكر فأورد له الخبر خاليا
من التوكيد، منبها بذلك إلى وضوحه.
-ضعف القرينة: مثل: إذا سئلت: من حضر ومن غاب؟ فتجيب: الذي حضر هو عمرو والذي غاب هو زيد.
وفي قوله: "الإحسان يستعبد الإنسان" فذكر المسند إليه في هذه الأمثلة
واجب لضعف الدلالة على الحاضر والغائب. وأيضا عما يستعبد الإنسان. فقد يفهم السامع
شيئا آخر من الكلام له صلة بالحضور والغياب، أو باستعباد الإنسان في المثال الثاني
إن لم يذكر المسند إليه.
ب-حذف المسند إليه: لا يجوز الحذف في اللغة إلا بوجود أمرين:
§
القرينة الدالة على المحذوف.
§
وجود سر بلاغي يرجح مزية الحذف على الذكر: ومن الأسرار البلاغية الكامنة وراء حذف المسند إليه:
أ-ضيق مقام الكلام: نحو قول الشاعر: [الخفيف]
قَالَ لِي كَيْفَ أَنْتَ؟ قُلْتُ عَلِيلُ
|
سَهرٌ دَائِمٌ وَحُُزْن طَوِيلُ
|
أي: أنا عليل، حذف المسند إليه "أنا" لوجود قرينة دالة
"عليل". ومنه قول الآخر:
لِمَ تبكين؟ منْ فَقدتِ؟ فقالتْ
|
وَالأَسَى غَالِبٌ عَلَيهَا: حَبِيبِي
|
أي: الفقيد حبيبي.
ب-ظهوره بقرينة دالة عليه: نحو قوله تعالى: ﴿فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ
عَجُوزٌ عَقِيمٌ﴾([4]).
أي: أنا عجوز.
ج-كون المسند إليه
معلوما حقيقة: نحو قوله تعالى: ﴿عَالِمُ
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ﴾([5]).
أي: الله عالم الغيب والشهادة.
هـ-الحفاظ على
القافية في الشعر: كقول الشاعر([7]):
[الطويل]
وَما المالُ والأَهلونَ إِلاّ وَدائِعٌ
|
وَلابُدَّ يَوماً أَن تُرَدَّ الوَدائِعُ
|
أي: أن يرد الناس الودائع.
و-الحفاظ على الوزن في الشعر: نحو قول الشاعر: [الطويل]
على أنني راضٍ بأنْ أَحْمِلَ الهَوى
|
وأخْلُصَ مِنْهُ لا عليّ ولا لِيا
|
أي: لا علي شيء ولا لي شيء.
ح-تيسير الإنكار وقت
الحاجة: نحو: "غبي ماكر" فيمكن
الإنكار بأنك تقصد شخصا بعينه.
2-تعريف المسند إليه:
تعريف المسند إليه
أولى من تنكيره كي يكون معلوما لدى المخاطب، ويكون المعنى واضحا.
ويرد المسند إليه
معرفة، كما يرد نكرة، ولكل منهما مقام يقتضيه وداع يستدعيه. وسيأتي الحديث عن
تنكير المسند إليه ودواعيه. أما تعريفه فقد يكون بنفس اللفظ دون حاجة إلى قرينة،
وذلك في التعريف بالعلمية، وقد يكون بقرينة الخطاب أو التكلم أو الغيبة وذلك في
التعريف بالضمائر، وقد يكون بقرينة حسية في تعريفه باسم الإشارة، أو بنسبة معهودة
في تعريفه بالاسم الموصول، أو بحرف وهو المعرف بأل، أو بإضافة معنوية وذلك عند
التعريف بالإضافة.
1-تعريفه بالعلمية: ويكون
ذلك لأجل:
§
استحضاره
باسمه الخاص في ذهن السامع: كقوله تعالى:﴿وَإِذْ
يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾([9]).
وقولنا: "علي أشج الفرسان".
§
أو
لتعظيمه: نحو: "علي صهر الرسول r.
§
أو لتحقيره: نحو: مسيلمة الكذاب.
§
أو للتلذذ بذكره: نحو قول المجنون: [البسيط]
بِاللهِ يا ظَبْياتِ القاعِ قُلنَ لَنا
|
لَيلايَ مِنكُنَّ أَم لَيْلَى مِنَ البَشَرِ
|
2-تعريفه بالإشارة: حسب قربه أو بعده أو توسطه. ويعرف بالإشارة لغرض:
§
استحضار في ذهن السامع: وتمييزه عن غيره بالإشارة إليه، لأن اسم الإشـارة
بطبيعة دلالته يفيد تحديد المراد تحديدا ظاهريا، وتمييزه تمييزا تاما. كقـول
الشاعر([10]):
[الطويل]
أولَئِكَ قَومٌ إِن بَنَوْا أَحسَنُوا البنا
|
وَإِن عاهَدوا أَوفَوْا وَإِن عَقَدُوا شَدُّوا
|
فاسم الإشارة أولئك: أفاد تمييز الممدوح وحضوره في ذهن
السامع محسوسا مشاهدا، وبعد هذا التمييز أضاف الشاعر إليهم هذه الصفات التي تفيد
التفرد وبلوغ الغاية في المجد. والشيء نفسه يقال عن قول ابن الرومي: [البسيط]
هَذا أَبو الصَّقْرِ فرْداً في مَحاسِنِهِ
|
§
تعظيم درجته بالقرب: وهذا مقصد تحققه أسماء الإشارة أحسن تحقيق. نحو قوله
تعالى: ﴿إِنَّ
هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾([12]).
§
تعظيم
درجته بالبعد: نحو قوله تعالى: ﴿الم (1)
ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾([13]).
§
تحقيره
بالقرب: كقوله تعالى: ﴿أَهَذَا
الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ﴾([14]).
فقد أشير إلى النبي r باسم الإشارة الموضوع للقريب "هذا" تحقيرا من لدن
الكفار وإعلانا عن رفضهم رسالته. وأنه لا يليق أن يذكر آلهتهم بسوء لقربه ودنو
منزلته، وانظر إلى قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَّتَّخِذُونَكَ
إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً﴾([15]).
تجد اسم الإشارة الموضوع للقريب "هذا" وتعريف المسند إليه بالإشارة
مفيدا للتحقير.
§
تحقيره
بالبعد: كقوله تعالى: ﴿فَذَلِكَ
الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)
وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾([16]).
فقد دلت الإشارة بالبعيد "فذلك" على حقارة المكذب وحرمانه من القرب وشرف
الحضور. وتقول: ذلك الواشي وشى بي عند فلان، فتحقره بالإشارة وتبعده عن نفسك وعن
المخاطبين.
3-تعريفه بالموصولية:
والقصد منه إيراد المسند إليه اسما موصولا. عندما يعرف المسند إليه بالموصولية ينبغي أن يكون
المخاطب والمتكلم عالمين بجملة الصلة، ولا يعمد المتكلم إلى تعريف المسند إليه
بالموصولية إلا إذا كان لا يعلم هو أو مخاطبه من أحوال المسند إليه سوى جملة الصلة
كأن يقول: الذي (مسند إليه) جلس بقربك أمس (جملة الصلة) شاعر (مسند) وهو لا يعلم
من ذلك الرجل سوى جلوسه بالأمس قريبا منه، وهي صلة يعرف بها.
ومن أغراض
تعريف المسند إليه بالصلة:
·
زيادة التقرير: كما في قوله تعالى: ﴿وَرَاوَدَتْهُ
الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ﴾([19]).
فجملة الصلة (هو في بيتها) أبرزت نزاهة يوسف عليه السلام. وهي الغرض المسوق له
الكلام وزادتها تأكيدا وتقريرا، وفي الصلة أيضا تقرير للمراودة وهي المسند، وفيها
أيضا تقرير للمسند إليه (التي) وتأكيد على أنها الفاعلة دون غيرها.
· الإيماء إلى وجه بناء الخبر:
فتقول: الذين آمنوا لهم درجات النعيم والذين كفروا لهم دركات الجحيم. ويتفرع عن
هذا حسب "السكاكي" اعتبارات أخر مثل: التعريض بالتعظيم أو التحقير. كما
في قولك: الذي يرافقك يستحق الإجلال، أو الذي يفارقك يستحق الإذلال، فمضمون الصلة
يشير إلى أن الخبر من جنس التعظيم أو التحقير.
· تهويل الأمر:
نحو قوله تعالى: ﴿فَغَشِيَهُم
مِّنْ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ﴾([20]).
وقوله تعالى: ﴿إِذْ
يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى﴾([21]).
وقوله تعالى: ﴿فَغَشَّاهَا
مَا غَشَّى﴾([22]).
فالاسم الموصول في هذه الآيات الكريمات فيه إبهام أدى إلى التفخيم والتهويل وأفاد
ما لا يكتنهه النعت ولا يحيط به الوصف.
· تنبيه المخاطب على خطأ:
كقوله تعالى: ﴿إِنَّ
الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ﴾([23]).
تجد جملة الصلة "تدعون من دون الله" تفيد تنبيه المشركين إلى خطئهم في
عبادتهم غير الله.
وانظر إلى قول الشاعر([24]):
[الكامل]
إِنَّ الَّذينَ تَرَونَهُم إِخوانَكُم
|
يَشْفِي غَلِيلَ صُدورِهِم أَن تُصرَعوا
|
فجملة الصلة (ترونهم إخوانكم) تفيد تنبيه المخاطب إلى خطئه، وقد رأى وهو
مخدوع أن هؤلاء إخوان له، والواقع أن صدورهم تتوقد حقدا.
·
الاستغراق: نحو: الذي يزورك يستحق التقدير، فجملة الصلة (يزورك) تستغرق كل من يقوم
بالزيارة وتشمله.
قال السكاكي في "المفتاح" متحدثا عن التعريف بالموصولية وأغراضه:
"وفي هذه الاعتبارات كثرة، فحم لها حول ذكائك"([25]).
4-تعريف المسند إليه
بأداة التعريف "أل": وتنقسم
"أل" التي تعرف بها النكرة إلى قسمين: "أل" العهدية، و"أل":
الجنسية:
1-"أل"
العهدية: والعهد ثلاثة أقسام: الصريح، والكنائي، والعلمي. والعهد يعني الإشارة إلى
معهود بينك وبين المخاطب.
أ-لام العهد الصريح:
وهي التي يتقدم لمدخولها ذكر صريح في الكلام. نحو قوله تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ
مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ
الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ﴾([26]).
فلفظتا المصباح والزجاجة كل منهما مسند إليه، وقد جاءتا معرفتين "بأل"
إشارة إلى معهود، وهذا المعهود صرح به تعالى في قوله: (فيها مصباح... في زجاجة).
ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّآ
أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَى
فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15)
فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ﴾([27]).
وهو ليس مسندا إليه هنا، فمصباح وزجاجة ورسول في المرة الأولى نكرة، وقد سبق ذكرها، وجاءت في المرة الثانية معرفة بأل
العهدية الصريحة، لأن ما دخلت عليه معهود سبق ذكره.
وضابطها أنه يصح أن يحل الضمير محلها مع مصحوبها نحو: فيها مصباح هو في
زجاجة: أي المصباح. فحل الضمير "هو" محل الاسم المعرف "بأل".
ب-لام العهد الكنائي: وهي التي يتقدم لمدخولها ذكر كنائي، كما في قوله تعالى: ﴿رَبِّ إِنِّي
نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى﴾([28]).
فلفظ "الذكر" مسند إليه. وقد عرف بأل إشارة إلى العهد الكنائي حيث لم
يصرح بلفظه، وإنما كني عنه في قوله تعالى: ﴿مَا فِي
بَطْنِي مُحَرَّراً﴾. إذ أرادت ذكرا تهبه لخدمة بيت المقدس، أما "أل" في (الأنثى)
فهي للعهد الصريح. وقولها: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى﴾. أي: ليس الذي طلبت كالذي وهبت.
ج-لام العهد العلمي: وتطلق على شيء حاضر. نحو قولك في شأن خطيب يخطب: لقد أبدع الخطيب في
كلامه.
كما تطلق على شيء غائب، ولكن المخاطب يعرفه ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا
مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾([29]).
وقوله تعالى: ﴿إِذْ
هُمَا فِي الْغَارِ﴾([30]).
فالماء والغار معهودان في علم المخاطب يستغني عن ذكرهما وغائبان الآن.
2-"أل"
الجنسية: وتنقسم بدورها إلى ثلاثة أقسام: لام الحقيقة، ولام العهد
الذهني، ولام الاستغراق.
· لام الحقيقة:
وهي التي يكون مدخولها مرادا به الحقيقة نفسها. نحو قولك: الذهب أثمن من الفضة.
"فأل" هنا لماهية الجنس، أي: لتعريف حقيقة مدخولها. وتسمى لام الحقيقة
والماهية والطبيعة.
· لام العهد الذهني:
وهي أن يأتي المعرف بلام الحقيقة مرادا به فرد مبهم من أفراد الحقيقة باعتبار
عهديته في الذهن لاشتمال الحقيقة عليه وقيام القرينة على ذلك نحو قوله تعالى: ﴿وَأَخَافُ
أَنْ يَّأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ﴾([31]).
وليس بين يعقوب وأبنائه ذئب معهود بعينه، بل فرد من أفراد الذئاب. وعليه قول
الشاعر([32]):
[الكامل]
وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللّئيمِ يسبُّني
|
فمَضَيْتُ ثمَّتَ قُلْتُ لا يَعْنِينِي
|
فالمراد باللئيم فرد غير معين من أفراد الحقيقة.
·
لام الاستغراق: وهي التي يراد بمدخولها جميع أفراد الحقيقة عند قيام
القرينة الدالة على ذلك. وسميت لام الاستغراق لاستيعابها جميع الأفراد.
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً﴾([33]).
فاللام في الإنسان للاستغراق لجميع أفراد جنسه. وقوله تعالى: ﴿إِنَّ
الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾([34]).
فالمقصود جميع الناس ما لم يكن هناك استثناء كما في قوله تعالى: ﴿إِلاَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا
بِالصَّبْرِ﴾([35]).
فهم ليسوا في خسران.
5-تعريف المسند إليه
بالإضافة: وتعريف المسند إليه بالإضافة يكون
بإضافته إلى أحد المعارف الخمسة: الضمير، العلم، الإشارة، الموصول، المعرف
"بأل".
وأغراض التعريف
بالإضافة كثيرة منها:
أ-تعظيم المضاف:
نحو قوله تعالى: ﴿شَهْرُ
رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾([36]).
فالإضافة إلى رمضان تشريف وتعظيم. ومنه قوله تعالى: ﴿وَعِبَادُ
الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً﴾([37]).
فإضافة العباد إلى الرحمن تشريف وتعظيم ما بعده تعظيم.
ب-تحقير المضاف:
نحو قولك: أعداء الإسلام يتربصون به. وقولك: رفيق البليد جبان.
6-تعريف المسند إليه
بالإضمار: يؤتى بالمسند إليه ضميرا إذا كان الحديث
في أحد المقامات الثلاثة: التكلم-الخطاب-الغيبة.
أ-مقام التكلم:
ومنه قول المتنبي: [البسيط]
أَنا الَّذي نَظَرَ الأَعمى إِلى أَدَبي
|
وَأَسمَعَت كَلِماتي مَن بِهِ صَمَمُ
|
ولا يخفى ما يكمن وراء التعبير بالضمير "أنا" من الفخر والاعتزاز
بالنفس. ومنه قول الشاعر([38]):
[الوافر]
وَنَحنُ إِذا عِمَادُ الحَيّ خَرَّت
|
وقول الشاعرة([41]):
[الطويل]
وَأَنت الّذي أَخلَفْتَنِي ما وَعدتَّنِي
|
وَأَشْمَتَّ بِي مَن كانَ فِيكَ يلومُ
|
ج-مقام الغيبة:
ومنه قول الشاعر: [الوافر]
مِن البيضِ الوجوهِ بنِي سِنانٍ
هُمُ حلُّوا من الشَّرف المُعلَّى |
لَوَ أَنَّكَ تَستضيءُ بهمْ أضاؤُوا
ومنْ حسبِ العَشيرةِ حيثُ شاؤُوا |
ويقتضي ضمير الخطاب استعمال هذه الضمائر في التواصل والحوار حسب ما يقتضيه
المقام في التخاطب. إلا أن ضمير المخاطب قد يستعمل لأغراض أخرى، دون أن يقصد به
مخاطب معين، أو يرتبط بزمان أو مكان معينين. ومنه قول طرفة بن العبد: [الطويل]
سَتُبدي لَكَ الأَيَّامُ ما كُنتَ جاهِلاً
|
وَيَأتِيكَ بِالأَخبارِ مَن لَم تُزَوِّدِ
|
فهذا القول يصح في زماننا كما صح في الزمان الغابر. وقول المتنبي: [الطويل]
إِذا كُنتَ تَرضى أَن تَعيشَ بِذِلَّةٍ
وَلا تَستَطيلَنَّ الرِّمَاحَ لِغارَةٍ |
فالقول هنا موجه إلى كافور بصيغة الخطاب، لكنه يصح مع أي مخاطب كان، وفي أي
زمن.
3-تنكير المسند إليه: يأتي المسند إليه نكرة لإفادة أنه فرد غير معين من أفراد جنسه، أو لإفادة
النوعية، وينكر المسند إليه سواء كان مفردا أو جمعا أو مثنى. فإذا قلت: جاءني رجل،
دل هذا القول على الإفراد أي: رجل لا رجلان، وصلح لإرادة النوعية أي: رجل لا
امرأة. ومن أغراض تنكير المسند إليه:
أ-الإفراد: نحو قوله تعالى: ﴿وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا
الْمَدِينَةِ يَسْعَى﴾([43]).
أي رجل واحد وهو فرد من الرجال.
ب-الجنس أو النوع:
نحو قوله تعالى: ﴿وَعَلَى
أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾([44]).
أي نوع خاص من الأغطية غير ما يعرفه الناس، وهو غطاء التعمي عن آيات الله.
ج-التكثير:
نحو قوله تعالى: ﴿وَإِنْ
يُّكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ﴾([45]).
أي رسل عددهم كثير وآياتهم عظام.
د-التعظيم:
نحو: لفلان قصر في الجنة، أو قولهم "شر أهر ذا ناب"([46]).
هـ-التحقير:
له مسكن تسوده الظلمة.
و-التقليل:
نحو قوله تعالى: ﴿وَعَدَ
اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا
الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ
وَرِضْوَانٌ مِّنْ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾([47]).
أي: شيء قليل من رضوان الله أكبر من ذلك كله.
ملاحظـة:
قد تتداخل الأغراض في تنكير المسند إليه، فيفيد التعظيم والتكثير في آن واحد. أو
التقليل والتحقير حسب القرائن التي تحيط بالسياق العام للسؤال.
4-تقديم المسند إليه
وتأخيره:
1-تقديم المسند إليه:
تقديم المسند إليه هو
الأصل في الإسناد، لأنه المحكوم عليه ويستحسن تحقق المحكوم عليه قبل الحكم.
أغراض تقديم
المسند إليه
أ-تخصيصه بالخبر إذا
تقدمه سالب: أي إذا سبق بنفي، ومن ذلك قول المتنبي:
[المتقارب]
وَما أَنا أَسقَمتُ جِسمي بِهِ
|
فالمسند إليه "أنا" مسبوق بأداة النفي "ما" نفيا للفعل
عن نفسه وإثباتا له لغيره. ومن ذلك قولك: "ما أنا قلت هذا"، ففي هذه
الحالة تنفي القول عن نفسك وتثبته لغيرك. والقصد أن الفعل ثابت الوقوع لكن من شخص
آخر.
ولأن الأمر يقتضي هنا نفيا وإثباتا، فلا يصح القول: "ما أنا قلت هذا
ولا غيري" لأن الكلام في هذه الحالة متناقض. فالفعل "قال" واقع
ونفيه عنك وعن غيرك فيه تناقض بين المفهوم والمنطوق. ولنفي الفعل عنك وعن غيرك
تقول: "ما قلت أنا هذا ولا قاله غيري"، فإن حرف النفي ينصب على ما بعده.
فإذا قلت: "ما قلت هذا" انصب النفي على الفعل وحده، وإذا 'قلت: "ما
أنا قلت هذا" انصب النفي على الفاعل وحده.
ب-تشويق السامع إلى الخبر: كقول أبي العلاء المعري: [الخفيف]
وَالّذي حارَتِ البَرِيَّةُ فِيهِ
|
حَيَوَانٌ مُسْتَحْدَثٌ مِن جَمادِ
|
د-إظهار التعظيم:
نحو: محمد نبينا r.
هـ-إظهار التحقير: نحو: مسيلمة كذاب.
و-تعجيل المسرة: نحو: الناجح أنت.
ز-النص على عموم السلب وسلب العموم: فعموم السلب يعني شمول النفي لكل فرد من أفراد المسند
إليه، ويكون بتقديم أداة من أدوات العموم على أداة النفي، نحو: كل الطلاب لم
يحضروا، فأداة العموم هي "كل" وأداة السلب "لم".
وعموم السلب هنا يعني نفي الحضور عن الطلاب كلهم. أما سلب العموم فيكون
بتقديم أداة النفي وتأخير أداة العموم نحو: ما كل الطلاب حضروا. فيكون المعنى حضور
بعضهم ونفي الحضور عن البعض الآخر، ومن أمثلة عموم السلب قول الشاعر: [الرجز]
قَد أصبَحَت أُمُّ الخَيارِ تَدَّعي
|
عَليَّ ذَنباً كُلُّهُ لَم أصنَعِ
|
ومن أمثلة سلب العموم قول أبي
الطيب: [البسيط]
ما كُلُّ ما يَتَمَنّى المَرءُ يُدرِكُهُ
|
تَجري الرِياحُ بِما لا تَشتَهِي السُفُنُ
|
فالتمييز بين عموم السلب وسلب العموم-إذن-يكون حسب ما صدرت به العبارة:
-في عموم السلب تقدم أداة العموم: (كل، جميع...)
-في سلب العموم تقدم أداة النفي: (لم، ما...)
إلا أن القاعدة البلاغية في هذا الشأن مبنية على الأكثرية، وليس على القطع
والإطلاق؛ فقد يكون من التعابير ما يخالفها وخفي على واضع القاعدة. فلو رجعنا إلى
الآيات الكريمات: قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ
مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾([51]).
﴿وَاللَّهُ
لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾([52]).
﴿وَلا
تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ﴾([53]).
وجدنا النفي سابقا لأداة العموم "كل". والمعنى لا يستقيم لو طبقنا
القاعدة. لذا وجب التفريق بين أداة العموم التي تدخل على المعرفة والتي تدخل على
النكرة، والانتباه للمعاني والسياق.
2-تأخير المسند إليه:
يؤخر المسند إليه إذا كان المقام يقتضي
تقديم المسند.
أحوال المسند:
المسند هو المحكوم به
وهو الركن الثاني من الجملة، ويكون خبرا لمبتدأ، وخبرا لكان وأخواتها، وإنّ
وأخواتها، وللمبتدأ المكتفي بمرفوعه، والمفعول الثاني لظن والثالث لأعلم، والفعل
التام، واسم الفعل، والمصدر النائب عن فعل الأمر.
وأمثلة ذلك:
أ-خبر المبتدأ:
الجو صحو: المسند إليه الجو. المسند: صحو.
ب-خبر كان:
كان الطقس باردا: المسند إليه: الطقس. المسند: باردا.
ج-خبر إن:
إن الدرس مفيد: المسند إليه: الدرس. المسند: مفيد.
د-المبتدأ المكتفي
بمرفوعه: ما متهاون الجند: المسند إليه: الجند.
المسند: متهاون.
هـ-المفعول الثاني
لظن: ظننت الطالب حاضرا: المسند إليه:
الطالب. المسند: حاضرا.
و-المفعول الثالث
لأعلم: أعلمت الأستاذ الطلاب حاضرين: المسند
إليه: الطلاب. المسند: حاضرين.
ز-الفعل التام:
جاء الحق: المسند إليه: الحق. المسند: جاء.
ح-اسم الفعل:
هيهات الجور: المسند إليه: الجور. المسند: هيهات.
ط-المصدر النائب عن
فعل الأمر: حبسا اللص: المسند إليه: اللص. المسند:
حبسا.
1-ذكر المسند:
يذكر المسند لدواع توجب ذلك منها:
أ-ضعف القرينة:
نحو: المال زينة الحياة الدنيا، فالمال قد يكون زينة الحياة، أو مصدرا للسعادة، أو
سببا في الشقاء. ونظرا للغموض الحاصل وعدم اكتفاء المسند إليه بنفسه، وجب ذكر
المسند قصد التوضيح.
ب-زيادة التقرير:
والمراد إبعاد اللبس والغموض أيضا. كما في قول الشاهد: زيد متزوج بليلى، في سؤال
القاضي: هل تزوج زيد ليلى؟.
ج-تعيين كونه اسما أو
فعلا: كما في قوله تعالى: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ
خَادِعُهُمْ﴾([54]).
لأن الاسم يفيد الثبوت والفعل يفيد التجدد.
ويشير عبد القاهر الجرجاني
إلى هذه الخاصية بقوله: "وبيانه أن موضوع الاسم على أن يثبت به المعنى
للشيء من غير أن يقتضي تجدده شيئا بعد شيئا. وأما الفعل فموضوعه على أنه يقتضي
تجدد المعنى المثبت به شيئا بعد شيء"([55]).
2-حذف المسند:
يكون الحذف أنسب
عندما يكون حذف الشيء أقوى في الدلالة من الذكر.
يقول الجرجاني:
"هو باب دقيق، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فإنك ترى به ترك الذكر، أفصح من الذكر، والصمت عن
الإفادة، أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بيانا إذا
لم تبن".
ويصح هذا النص على
الحذف بصفة عامة وفي أي طرف من الجملة وعلى أي ناحية كان.فوراء كل حذف، سواء أكان
مسندا إليه أم مسندا أم من متعلقات الفعل، ثلاث مزايا بلاغية هي: الإيجاز-الاحتراز
عن البعث بناء على الظاهر-إثارة حس المتلقي كي يقف على المطوي من العبارة ويحيط
به.
بالإضافة على هذا نجد
لحذف المسند أغراضا بلاغية أخرى منها:
أ-ظهوره بقرينة دالة
عليه: ومن ذلك قوله تعالى: ﴿لَوْلا
أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ﴾([56]).
أي: أنتم موجودون.
ب-ضيق المقام بسبب
الوزن: كما في قول الشاعر([57]):
[الطويل]
ومَن يَكُ أَمسى بِالمَدينَةِ رَحلُهُ
|
فَإِنّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَريبُ
|
أي فإني لغريب وقيار
(فرسه أو جمله) غريب بالمدينة أيضا. ومن ذلك قول قيس بن الخطيم([58]):
[المنسرح]
نَحنُ بِما عِندَنَا وَأَنتَ بِما
|
عِندَكَ راضٍ وَالرَأْيُ مُختَلِفُ
|
أي نحن بما عندنا
راضون، وتجد الشاعر قد طوى المسند ولم يذكره.
ج-الاختصار والاحتراز
عن البعث: كقوله تعالى: ﴿أَنَّ اللَّهَ
بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾([59]).
أي ورسوله بريء من المشركين.
د-آتباع الاستعمال
الوارد عند العرب: ويكون بعد إذا
الفجائية، نحو:
خرجت فإذا العواصف.
والتقدير خرجت فإذا العواصف شديدة. كما يكون بعد جواب الاستفهام، نحو: من عندكم؟
فتقول: ضيف. أي: عندنا ضيف.
هـ-وقوع المسند جوابا
لسؤال محقق أو مقدر: نحو قوله تعالى: ﴿وَلَئِن
سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ
لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾([60]).
والتقدير: الله خلق السماوات والأرض. فجملة "خلق السموات والأرض" هي
المسند المحذوف، دلَّ عليه ما قبله، وهي القرينة التي أوحت بتقديره، والسؤال هنا
محقق.
وعن وقوع المسند
جوابا لسؤال مقدر يقول لبيد بن ربيعة العامري: [الطويل]
لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارِعٌ لِخُصومَةٍ
|
وَمُختَبِطٌ مِمّا تُطيحُ الطَوائِحُ
|
فالفعل "يُبْكَ":
مبني للمجهول، يزيد: نائب الفاعل، فلما حذف الفاعل وأقيم المفعول به مقامه، انبعث
من الجملة سؤال تقديره: من يبكيه؟ فجاء الجواب: ضارع لخصومة؛ والضارع: الذليل
المحتاج للعون، والمختبط: الذي يأتي للمعروف من غير وسيلة، وقد طوحت به الطوائح
أي: أهلكته المهلكات.
وقد حذف منه الفعل لدلالة
السؤال المقدر عليه؛ والمعنى: يبكيه ضارع. وفضل هذا التركيب؛ أي البناء للمجهول
"ليبك يزيد ضارع" على المبني للمعلوم: "ليبك يزيد ضارع".
وهنالك أغراض أخرى
يتشابه فيها حذف المسند وحذف المسند إليه؛ كصون اللسان عن ذكره. ومنه ما يحتمل
حذفهما معا نحو قوله تعالى: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾([61]).
-تقدير المسند: فصبر
جميل أجمل.
-تقدير المسند إليه:
فصبري صبر جميل..
3-تنكير المسند:
يأتي المسند نكرة لأغراض منها:
أ-عدم إرادة حصره أو
تعيينه: نحو قولك: محمد كذاب، وعلي شاعر. فالقصد
هو مجرد الإخبار عنهما بالكتابة والشعر.
ب-إرادة التفخيم
والتعظيم: كما في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ
الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾([62]).
أي هو هدى للمتقين، على اعتبار "هدى للمتقين" خبرا لمبتدأ محذوف تقديره
هو، وتنكير المسند "هدى" أفاد تعظيم هداية القرآن.
ج-إرادة التحقير: نحو: "الحاصل من
المال شيء" أي حقير وقليل، ويتحكم سياق الجملة ومقتضى حالها في طبيعة الغرض
من النكرة في هذه الحالة.
4-تعريف المسند:
يعرف المسند بإحدى
المعارف لإفادة المخاطب حكما على أمر معلوم. ويقتضي كون المسند معرفة أيضا، إذ لا
يحكم بالمعلوم على المجهول. ويكون تعريف المسند لأغراض منها:
أ-إفادة التعيين:
نحو: زيد الشاعر، ويكون التعيين بالنسبة لمخاطب يعلم صفة في الشيء ويجهل أخرى
فتخبره باتصافه بها. وهذه الحالة تقتضي تقديم المحكوم عليه "المسند
إليه" على أنه مبتدأ وتأخير المحكوم به "المسند" على أنه خبر.
وفي حالة ما إذا كان
المخاطب يعلم الصفة ويجهل الموصوف؛ أي يعلم أن هناك شاعرا، ولكن لا يعرف من هو
بالضبط، فتعينه بقولك: الشاعر زيد. فيكون المعلوم "الشاعر" مبتدأ
والمجهول "زيد" خبرا.
ب-المبالغة في قصر
المسند على المسند إليه: وعادة ما يكون هذا الغرض في مقام المدح والفخر والرثاء
ونحوها. ومن ذلك قول طرفة" [الطويل]
أَنَا الرَّجُلُ الضَربُ الّذي تَعرِفونَهُ
|
وقول المتنبي: [الطويل]
وَدَعْ كُلَّ صَوتٍ غَيرَ صَوتِي فَإِنَّنِي
|
أَنا الطائر المُحْكِيُّ والآخَرُ الصَدى
|
5-تقديم المسند:
يقدم المسند على المسند إليه لأغراض بلاغية منها:
أ-إفادة القصر:
أي قصر المسند إليه على المسند. كما في قوله تعالى: ﴿لَكُمْ
دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾([64]).
والمعنى: إن دينكم الذي هو الإشراك مقصور على كونه لكم لا يتجاوزكم إلي، وديني
الذي هو التوحيد مقصور على كونه لي لا يتجاوزني إليكم، فالمقصور عليه هو المسند
المقدم والمقصور هو المسند إليه المؤخر. ومنه قول الشاعر: [الخفيف]
تَعَبٌ كُلُّها
الحَياةُ فَما أَعْـ
|
ـجَبُ إِلاّ
مِنْ راغبٍ في ازْديادِ
|
أفاد التقديم قصر الحياة على التعب قصرا ادعائيا أي؛ أن ما فيها من فترات
الراحة لا اعتداد به.
ب-التنبيه على أنه خبر لا نعت: كما في قول حسان بن ثابت t في مدح الرسول r: [الطويل]
لَهُ هِمَمٌ لا مُنتَهَى لِكِبارِها
|
وَهِمَّتُهُ الصُغرى أَجَلُّ مِنَ الدَهرِ
|
فلو قال: "همم له لا منتهى لكبارها" لتوهم أن الجار والمجرور
"له" نعت لا خبر. لأن النكرة تحتاج إلى الوصف حتى يكون مسوغا للابتداء
بها، ولتوهم أن الخبر هو الجملة بعده، وهذا لا يتفق مع غرض المدح، لأن الشاعر يريد
مدح الرسول r لا مدح هممه.
ومن ذلك قول الله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ
وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾([65]).
حيث قدم الجار والمجرور "لكم" على المسند "مستقر" لدفع توهم
أنه نعت وليس بخبر.
ج-إظهار التفاؤل:
كما في قول الثعالبي([66]):
[الكامل]
سَعِدَتْ بغُرَّةِ وجهِكَ الأَيَّامُ
|
وتزيَّنَتْ ببقائِكَ الأعوامُ
|
فالمسند "سعدت" قدم ليفيد التفاؤل لأنه من جنسه، وكذلك
"تزينت" قدم على المسند إليه "الأعوام" للغرض نفسه.
د-إظهار الألم والضجر: كما في قول المتنبي: [الطويل]
وَمِن نَكَدِ الدُنيا عَلى الحُرِّ أَن يَرى
|
عَدُوّاً لَهُ ما مِن صَداقَتِهِ بُدُّ
|
ثلاثةٌ تشرقُ الدنيا ببهجتها
|
شمسُ الضُّحى وأبو اسحق والقَمَرُ
|
وقول الآخر:
ثلاثة ليس لها إياب
|
الوقت والجمال والشباب
|
فكلمة ثلاثة مسند لأنها نكرة. والتشويق إلى معرفة صفات هذه الثلاثة سوغ
حلول المسند أولا.
6-تأخير المسند: يؤخر المسند على المسند إليه إذا كان ذكر الثاني أهم منه. نحو قوله تعالى:
﴿الْمَالُ
وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾([68]).
وقوله تعالى: ﴿وَالآخِرَةُ
خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾([69]).
7-وقوع المسند اسما:
يقع المسند اسما لإفادة الثبوت والدلالة على الزمن المطلق، أي عدم التقييد بزمن
معين نحو قول الشاعر: [البسيط]
لاَ يَألَفُ الدِّرْهمُ المضْرُوبُ صُرَّتَنَا
|
لكِنْ يَمُرُّ عَلَيهَا وَهْوَ مُنْطَلِقُ
|
فالمسند "منطلق" ثابت للمسند إليه
الذي هو الضمير العائد على الدرهم.
8-وقوع المسند فعلا: ويقع المسند فعلا للدلالة على زمن من الأزمنة النحوية الثلاثة مع إفادة
التجدد. كما في قول طريف العنبري([70]):
[الكامل]
أوَ كُلَّمَا وردتْ عُكاظَ قبيلَةٌ
|
بعثُوا إِلَيَّ عَريفَهم يتوَسَّمُ
|
فالفعل هنا يتوسم يدل على التجديد بدليل "كلما" في البداية وهي
قرينة من القرائن التي تفيد التجدد في الفعل. وانظر إلى قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا
النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ
يَرْزُقُكُم مِّنْ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ﴾([71]).
تجد المسند "يرزقكم" متجددا ومستمرا، ويتجدد تجدد العباد، لا ينقطع ولا
يزول، وهذا يلائمه التعبير بالفعل. ولو قيل: هل من خالق غير الله رازقكم، لما أفاد
هذه الإفادة.
9-إفراد المسند:
يقع المسند مفردا إذا لم يكن سببيا ولم ترد منه إفادة تقوية الحكم. نحو "محمد
قائم، الطالبان حاضران، الطلاب مجتهدون".
ويقع جملة إذا كان
سببيا أو أريد به تقوية الحكم. نحو: محمد يعطي الجزيل، خالد يحمل السلاح. فورود
المسند جملة في هذين المثالين كان لغرض تقوية الحكم.
أما إذا قصد المتكلم أن المسند إليه متعلق بسبب من المسند ومرتبط به بروابط
قوية فإنه يقول: محمد أبوه عالم، خالد أجداده ملوك فالضمير يعود على المبتدأ، وهذا
الضمير ليس مسندا إليه.
أحوال
متعلَّقات الفعل
ترتبط بالفعل معمولات لها صلة بالمعنى حسب السياق الذي ترد فيه داخل
الجملة. وهذه المعمولات هي متعلقات الفعل. والمراد بمتعلقات الفعل ما يتصل به
ويتعلق به من: مفعول وجار ومجرور وظرف ومصدر وحال وتمييز وغير ذلك، فالفعل يلابس
هذه المتعلقات ويتحقق باتصاله بها كثير من الأغراض البلاغية.
أما أحوال هذه المتعلقات فهي: الذكر والحذف والتقديم والتأخير والتعريف
والتنكير وغير ذلك.
وحال الفعل مع المفعول كحال الفعل مع الفاعل، إذ القصد المشترك بينهما هو
إفادة التركيب تلبس الفعل بما ذكر معه؛ أي تعيين من وقع منه الفعل ومن وقع عليه
الفعل، وليس الغرض إفادة وقوع الفعل، لأن الإخبار بوقوعه يكفي في القول: وقع ضرب،
وحصل وقوف..
وفي هذا الصدد يقول الجرجاني: "وهاهنا أصل يجب ضبطه، وهو أن حال الفعل
مع المفعول الذي يتعدى إليه حاله مع الفاعل. وكما أنك إذا قلت: ضرب زيد. فأسندت
الفعل إلى الفاعل كان غرضك من ذلك أن تثبت الضرب فعلا له، لا أن تفيد وجود الضرب
في نفسه، وعلى الإطلاق. كذلك إذا عديت الفعل إلى المفعول فقلت: ضرب زيد عمرا. كان
غرضك أن تفيد التباس الضرب الواقع من الأول بالثاني، ووقوعه عليه، فقد اجتمع
الفاعل والمفعول في أن عمل الفعل فيهما، إنما كان من أجل أن يعلم التباس المعنى
الذي اشتق منه بهما. فعمل الرفع في الفاعل، ليعلم التباس الضرب به من جهة وقوعه
منه، والنصب في المفعول، ليعلم التباسه به من جهة وقوعه عليه. ولم يكن ذلك ليعلم
وقوع الضرب في نفسه"([72]).
1- تقييد الفعل: المقصود
بالفعل هنا هو فعل الشرط وحده. والشرط هنا محصور في: إن وإذا ولو.
أ-إن:
وهي للشرط والاستقبال. ويكون الشرط معها غير مقطوع به. أي تفيد حصول الجزاء بحصول
الشرط في المستقبل نحو: إن تزرني أكرمك.
ب-إذا: وهي
أيضا للشرط والاستقبال. ويكون الشرط معها مقطوعا به. نحو: إذا غربت الشمس حل
الظلام. أو يظن ظنا قويا وقوعه: إذا جئت أكرمتك، في حال اعتقادك اعتقادا قويا أنه
سيأتي وترجح مجيئه. ولذا كان الغالب في الفعل المستعمل مع إذا أن يكون بلفظ الماضي
للإشعار بتحقق الوقوع.
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿إِذَا جَآءَ
نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)
وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2)
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً﴾([73]).
وقد بكى أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه عند نزول هذه السورة، فلما سئل عن
السبب أجاب بأن محمدا r سيموت قريبا. فمجيء نصر الله والفتح ودخول الناس في دين الله
أفواجا مؤكد ومحتم بدليل "إذا".
ج-لو:
وهي لتعليق ما امتنع بامتناع غيره على سبيل القطع. وتدخل هذه الأداة على الفعل
الماضي وتدل على عدم حدوثه، ولذلك سميت لدى البلاغيين بحرف امتناع لامتناع. كما في
قولك: لو جئت أكرمتك. والمعنى أنك لم تجئ ولم يحدث مني إكرامك.
2-الفعل اللازم
والمتعدي: اللازم هو الذي يكتفى فيه بذكر الفعل
والفاعل، ولا يتعدى إلى مفعول به نحو: صام المكلف.
أما المتعدي فهو الذي
ينصب مفعولا أو أكثر، نحو: ضرب عمرو زيدا. فقولنا ضرب عمرو فيه إسناد فعل الضرب
إلى عمرو. وقولنا: ضرب عمرو زيدا تعدى فيه الفعل الفاعل إلى المفعول به فثبت وقوع
الضرب من عمرو على زيد.
والفعل هنا أفاد
أمرين: أحدهما وقوع الضرب من الفاعل، والثاني وقوع الضرب على المفعول به.
أما المتعدي الذي
يتجرد عن مفعوله فإنه يصبح كاللازم ويتسع مدلوله. كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ
يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾([74]).
فهي بمعنى: هل يستوي من تثبت له حقيقة العلم ومن لم تثبت له؟ هذا الحذف للمفعول جعل
الفعل المتعدي "يعلمون" كاللازم واتسع مدلوله فصح بذلك: هل يستوي الذين
يعلمون علوم الدين، أو علوم الدنيا، أو علوم الفلك... والذين لا يعلمون...
3-حذف المفعول به:
يحذف المفعول به لأغراض منها:
أ-إرادة العموم:
نحو قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ
يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ﴾([75]).
أي: كل أحد. فحذف المعمول فيه إشارة للعموم.
ب-استهجان ذكره:
ومن ذلك قول عائشة رضي الله عنها: (ما رأيت منه ولا رأى مني). أي: العورة.
ج-البيان بعد الإبهام:
وهو غرض جليل لأن الشيء إذا أبهم تطلعت النفوس إليه، فإذا تبين بعد ذلك حسن موقعه
في النفس. ويكثر هذا الحذف في مفعول المشيئة أو الإرادة الواقعة بعد: "لو
وإن" ونحوهما من أدوات الشرط.
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَعَلَى
اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ
أَجْمَعِينَ﴾([76]).
والمعنى: ولو شاء هدايتكم لهداكم أجمعين. فحذف مفعول شاء لدلالة جواب الشرط عليه.
ومن ذلك أيضا قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ
نَفْسٍ هُدَاهَا﴾([77]).
والتقدير: ولو شئنا إيتاء كل نفس هداها لآتينا...
د-الاختصار:
نحو قوله تعالى: ﴿قَالَ
رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾([78]).
أي أرني ذاتك أو نفسك. والله أعلم.
هـ-رعاية الفاصلة
والحفاظ على التنغيم الموسيقي: ومن ذلك قوله
تعالى: ﴿وَالضُّحَى (1)
وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)
مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾([79]).
أي: وما قلاك. فحذف الكاف الدالة على المفعول من قلى رعاية للفاصلة وحفاظا على
الموسيقى، لما للصوت من قوة في التأثير على النفوس. وذلك عندما يقتضيه المقام
ويتطلبه المعنى وهذا هو شان الفواصل في القرآن الكريم فهي تأتي تابعة للمعنى
ومحققة لما يقتضيه المقام.
4-تقديم المفعول
ونحوه من المتعلقات على العامل: وتقديم العامل على
المعمول هو الأصل. إلا أن العكس قد يحصل لأغراض بلاغية أهمها:
أ-إرادة التخصيص:
والتخصيص ملازم للتقديم أبدا وفيه يكون قصر العامل المؤخر على معموله المقدم. ومن ذلك قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ
نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾([80]).
والمعنى: نخصك يا رب بالعبادة ونخصك بالاستعانة، ولا نعبد سواك ولا نستعين بغيرك.
فتقديم المفعول "إياك" في الموضعين أفاد القصر: أي قصر العبادة
والاستعانة على الله تعالى. وانظر إلى قول شوقي([81]):
[البسيط]
بِالعِلمِ وَالمالِ يَبني الناسُ مُلكَهُمُ
|
لمَ يُبنَ مُلكٌ عَلى جَهلٍ وَإِقلالِ
|
تجد أن تقديم الجار
والمجرور "بالعلم" أفاد قصر بناء الملك على كونه بالعلم والمال.
ومن إرادة الاختصاص
في تقديم المعمول قولنا: "ماشيا جاءني زيد"، ويوم الجمعة سافر عمرو، فخص
مجيئه بالمشي وسفر الآخر بيوم الجمعة.
ب-رعاية الفاصلة:
والمراد به الحفاظ على التنغيم الصوتي. على نحو ما ترى في قوله تعالى: ﴿خُذُوهُ
فَغُلُّوهُ(30)ثُمَّ
الْجَحِيمَ صَلُّوهُ(31)ثُمَّ
فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ﴾([82]).
فتقديم المفعول "الجحيم" والجار والمجرور "في سلسلة" يفيد
الاختصاص والمحافظة على الفاصلة واستمرار النغم الصوتي المؤثر في النفس([83]).
القصر والاختصاص
1-معنى القصر:
القصر لغة: الحبس
والإلزام. قال الله تعالى: ﴿حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ﴾([84]).
أي: محبوسات قد قصرن نظرهن على أزواجهن فالمرأة قاصرة الطرف هي التي تحبس طرفها
على بعلها وتخصه به.
وفي الاصطلاح: هو
تخصيص شيء بشيء بطريق مخصوصة. فعندما نقول: زيد شاعر لا كاتب. فإننا نخص زيدا بصفة
الشعر بحيث لا يتجاوزها إلى صفة الكتابة. فزيد مقصور، والشعر مقصور عليه.
2-أنواع القصر:
ينقسم القصر باعتبار
الواقع إلى قسمين: قصر حقيقي وقصر إضافي.
1) القصر الحقيقي:
وهو ما اختص فيه المقصور بالمقصور عليه، بحيث لا يتجاوزه إلى غيره أصلا، سواء على
وجه الحقيقة، أو على وجه الادعاء (المبالغة). وينقسم باعتبار طرفيه إلى قسمين:
أ-قصر موصوف على صفة:
نحو قولنا: "ما زيد إلا كاتب" وفي هذه العبارة يكون الموصوف
"زيد" محصورا بصفة واحدة هي الكتابة ولا يتعداها إلى شيء آخر. أي: أنه
ليس شاعرا ولا بشرا ولا آكلا ولا شاربا...
وقصر الموصوف على هذه
الصفة كما في هذا المثال يكاد يكون مستحيلا.
ب-قصر صفة على موصوف:
كما في قولنا: "لا خالق إلا الله" فقد قصرت صفة الخلق على الموصوف
"الله" وحده وهو قصر حقيقي. ومن ذلك على جهة الادعاء: "ما الكاتب
إلا زيد"، فقد قصرنا صفة الكتابة على الموصوف "زيد" على جهة
المبالغة، والمراد بذلك أن الصفة مكتملة فيه مع جواز أن يشاركه غيره في أصل تلك
الصفة.
ويتضح في هذين
النوعين: أي قصر الموصوف على الصفة وقصر الصفة على الموصوف، أن الأول لا يصح لأنه
يستحيل أن نقصر موصوفا على صفة وننفي عنه باقي الصفات الممكنة. أما الثاني؛ قصر
صفة على موصوف فيجوز على وجه الادعاء والمبالغة، ولا مانع أن يشاركه غيره في نفس
الصفة.
2) القصر الإضافي:
وهو الذي يختص فيه المقصور بالمقصور عليه بالنسبة إلى شيء معين؛ أي بالإضافة إليه.
بحيث لا يتجاوزه إلى ذلك المعين. كما في قولنا: "زهير شاعر لا كاتب"،
فالمراد قصر زهير على صفة الشعر، بحيث لا يتجاوزها إلى صفة معينة محددة، وهي صفة
الكتابة، وهذا لا ينفي أن تكون للموصوف صفات أخرى كالسباحة مثلا. ففي القصر
الإضافي يكون المنفي معينا محددا والمراد ألا يتجاوز المقصور المقصور عليه إلى هذا
المنفي المعين وإن أمكن أن يتجاوزه إلى غيره. ومنه قولنا: الشاعر ذو الرمة لا
جرير، فصفة الشعر مقصورة على ذي الرمة لا تتعداه إلى جرير، وإن صح أن تتعداه إلى
الفرزدق أو الكميت أو غيرهما من الشعراء. وينقسم القصر الإضافي باعتبار المخاطب
إلى ثلاثة أقسام: قصر إفراد، وقصر قلب، وقصر تعيين.
أ-قصر الإفراد:
وهو تخصيص أمر بأمر دون آخر. ويخاطب به من يعتقد الاشتراك. كما في قولنا: "ما
الكاتب إلا زيد" فقد يعتقد المخاطب أن عمرا كاتب وزيدا كاتب. فتقصر الصفة على
زيد وحده، فتكون قد أفردت زيدا ونفيت فكرة اشتراكه وعمرو.
ومن ذلك أيضا قولك
لمن يعتقد أنك طالب علم وتاجر في الآن نفسه: "ما أنا إلا طالب علم".
فهذه الجملة قصر الموصوف فيها على الصفة وهي قصر إفراد لأنها نفت الشركة مع
التجارة.
ب-قصر القلب:
وهو تخصيص أمر بأمر مكان آخر. ويخاطب به من يعتقد العكس. كقولك: "جاءني زيد
لا عمرو" مخاطبا من يعتقد أن عمرا هو الذي جاء. فأنت تعكس وتقلب ما يعتقده
المخاطب، لذلك سمي قصر القلب.
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ
لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ
أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَآءُ وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ﴾([85]).
فالمنافقون يعتقدون أن المؤمنين هم السفهاء، فقلب الحق اعتقادهم وبين أنهم هم
السفهاء ولكن لا يعلمون.
ج-قصر التعيين:
ويخاطب به المتردد بين شيئين الشاك في اختصاص الموصوف بإحدى الصفتين أو الصفة بأحد
الموصوفين. كما في قولك: "إنما الناجح عمرو" لمن يشك في اسم الناجح هل
هو زيد أم عمرو؟ وقولك: ما زيد إلا مسافر لمن يشك هل هو مقيم أو مسافر؟.
وهذا التقسيم إلى
إفراد وقلب وتعيين يرجع فيه الحكم إلى فهمك حالة المخاطب ونفسيته، أيعتقد المشاركة
أم العكس، أم هو متردد وشاك. فتخاطبه بأسلوب القصر المناسب. وفي جميع الحالات تكون
أمام أمرين فتنفي أحدهما أو تعكسه أو تختاره.
3- طرق القصر:
وللقصر طرق عدة أهمها:
النفي والاستثناء، العطف بـ: لا-بل-لكن. إنما، تقديم ما حقه التأخير.
1-النفي والاستثناء: ويتم بـ: ما وإلا، أو ليس وإلا. أي أداة نفي مصحوبة بأداة استثناء.
ويستفاد القصر من النفي والاستثناء بالنظر إلى الصفة والموصوف. فإذا قيل: "ما
زيد" توجه النفي إلى الصفة لا إلى الموصوف لأنه ثابت. وعندما نضيف "إلا
شاعر" واستثنيناها من النفي ضمن باقي الصفات الأخرى المنفية فيقع القصر فتفيد
بذلك عبارة "ما زيد إلا شاعر" قصر الموصوف على الصفة. أما في قصر الصفة
على الموصوف فإنه متى قيل: "ما شاعر" دخل النفي على الصفة
"شاعر" وتلقى العبارة لمن يعتقد الاشتراك في هذه الصفة، وعندما نضيف
"إلا زيد" يقع القصر على الموصوف بعد أن كان النفي شاملا.
ومتى دخل النفي والاستثناء على الجملة وقع الاختصاص بما يلي
"إلا" ولهذا لا يصح في قصر الإفراد أن نقول: "ما زيد إلا شاعر لا
كاتب" لأن في قولنا ما زيد إلا شاعر ما ينفي عنه صفة الكتابة. وإتباع النفي
والاستثناء بنفي آخر لا يجوز.
كما لا يصح قولنا: "ما شاعر إلا زيد لا عمرو" لأن نفي صفة
الشاعرية عن كل من عدا زيدا واضح في قولنا: ما شاعر إلا زيد. وما صح في قصر
الإفراد في هذه النماذج يصح أيضا في قصر القلب.
2-العطف: ويكون العطف
بـ: لا، أو بل، أو لكن. ومن ذلك قولنا:
أ-محمد شاعر لا كاتب
-الشاعر محمد لا علي
ب-ما زيد فارس لكن عمرو
-ما الفارس زيد لكن عمرو
ج-ليس شوقي كاتبا بل شاعر
-ليس الكاتب شوقي بل نجيب
فتجد أن القصر قد أفيد بأحد الحروف المذكورة، وواضح أن طريق العطف يصرح فيه
بكل من المثبت والمنفي، أي المقصور عليه والمنفي عنه، ولذا كان أقوى طرق القصر
وآكدها لأن غيره من الطرق لا يصرح فيها بالنفي بل يفهم ضمنا.
3-القصر بإنما: وتستعمل إنما فيما شأنه أن يعلمه المخاطب ولا ينكره، وهذا هو الأصل فيها.
عكس النفي والاستثناء.
ومن ذلك قولك: إنما هو أخوك، إنما هو صاحبك، إنما يأكل الذئب من الغنم
القاصية.فتلك أمور معلومة لا يجهلها أحد. والقصر فيها تنبيه للمخاطب. وقد تستعمل
إنما في الأمور التي ينكرها المخاطب ويدفعها تنزيلا لتلك الأمور منزلة ما لا يجهله
المخاطب ولا ينكره، وذلك لغاية بلاغية يقصد إليها. كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ
لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)
أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ﴾([86]).
فكون المنافقين مصلحين خبر ينكره المخاطب، وحق القصر أن يكون بالنفي والاستثناء
"ما نحن إلا مصلحون" لكن النظم الكريم آثر التعبير بإنما تنزيلا لهذا
الخبر المنكر منزلة الأمر المعلوم. فهم يدعون أن إصلاحهم واضح لا ينكره أحد. ولذا
جاء الرد القرآني قاسيا وعنيفا: ﴿أَلآ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾.
فوائد القصر بإنما:
·
للقصر
بإنما مزية على القصر بالعطف لدلالتها على إثبات الفعل لشيء ونفيه عن غيره دفعة
واحدة. فإذا قلت: "إنما جاءني زيد" عقل منه إثبات المجيء لزيد ونفيه عن
غيره. وهذا ما يقصده النحاة في قولهم: إن إنما لإثبات ما يذكر بعدها ونفي ما سواه.
·
يجوز
أن يتقدم النفي على إنما لأن النفي غير مصرح به فيها. كما يجوز أن يتأخر عليها،
كما في قولنا:
·
أ-ما
زيد جاء إنما عمرو.
·
ب-إنما
جاء عمرو لا زيد.
بخلاف "ما"
و"إلا" فإنه صرح فيهما بالنفي، والنفي الصريح ليس كالنفي الضمني.
إلا أنه لا يحسن
العطف بعد "إنما" مع الفعل المختص بموصوفه، كما هو الشأن في التذكر الذي
يعلم أنه لا يكون إلا من أولي الألباب في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا
الأَلْبَابِ﴾([87]).
فلا يحسن أن تقول: إنما يتذكر أولوا الألباب لا الجهال، كما يحسن قولك: "إنما
جاء عمرو لا زيد".
·
الأصل
في إنما أن تجيء في أمر لا يجهله المخاطب ولا ينكره، عكس ما وإلا.
·
أحسن
مواقع إنما موقع يراد به منها التعريض بأمر يقتضيه معنى الكلام بعدها. نحو قوله
تعالى: ﴿إِنَّمَا
يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾. فإنه تعريض بالكافرين من حيث إنهم من فرط العناد في حكم من ليس بذي عقل.
فليس الغرض من الآية معناها الظاهر. ومن ذلك قول العباس بن الأحنف: [المديد]
أنا لم أُرزق محبتَها
|
إنما للعبد ما زُرقا
|
ففيه تعريض بأنه لا مطمع في وصلها. بل هو يائس من ذلك.
4-تقديم ما حقه التأخير: كتقديم الخبر على المبتدأ، وتقديم المفعول به على الفعل.
ومن ذلك في قصر الموصوف على الصفة: "شاعر زيد" إفرادا لمن يعتقد
كونه شاعرا وكاتبا. أو قلبا لمن يعتقده كاتبا لا شاعرا.
وفي قصر الصفة على الموصوف إفرادا قولنا: "زيد تصدر السباق" لمن
يعتقد اشتراكه هو وعمرو في هذه الصفة. وقلبا لمن يعتقد أن متصدر السباق عمرو لا
زيد.
5-ومن أدوات القصر أيضا: أداة التعريف "أل" وضمير الفصل. نحو: "محمد الكاتب"
و"محمد هو الكاتب:. وقوله تعالى: ﴿وَأُوْلَئِكَ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾([88]).
الفصل والوصل:
1-التعريف:
الوصل: عطف جملة على جملة بالواو دون غيرها من سائر حروف العطف. والفصل ترك الوصل.
ويكتسي الفصل والوصل
أهمية بالغة في الدرس البلاغي عموما؛ فهو من أخطر الأبواب وأدقها مسلكا.
يقول الجرجاني:
"اعلم أن العلم بما ينبغي أن يصنع في الجمل من عطف بعضها على بعض أو ترك
العطف فيها، والمجيء بها منثورة تستأنف واحدة منها بعد أخرى من أسرار البلاغة ومما
لا يأتي لتمام الصواب فيه إلا الأعراب الخلص، وإلا قوم طبعوا على البلاغة، وأوتوا
فنا من المعرفة في ذوق الكلام، هم بها أفراد. وقد بلغ من قوة الأمر في ذلك أنهم
جعلوه حدا للبلاغة، فقد جاء عن بعضهم أنه سئل عنها فقال: معرفة الفصل من الوصل.
ذاك لغموضه ودقة مسلكه، وأنه لا يكمل لإحراز الفضيلة فيه أحد إلا كمل لسائر معاني
البلاغة"([89]).
والكلام عن الوصل
يقتضي التمييز بين حروف العطف، وقد تم التركيز على الواو بالذات لأنها تفيد العطف
وحده دون سواه. أما باقي الحروف فتستفاد منها معان أخرى؛ كالفاء التي تفيد العطف
والترتيب من غير تراخ، وثم التي تفيد العطف والترتيب مع التراخي.
2-مواطن الوصل:
يجب الوصل بالواو في ثلاثة مواضع:
أ-إذا قصد إشراك
الجملتين في الحكم الإعرابي، نحو: أنت تأمر وتنهى وتعطي وتمنع.
ب-إذا اتفقت الجملتان
خبرا وإنشاء وكانت بينهما صلة جامعة في المعنى
·
في
الخبر نحو قوله تعالى: ﴿إِنَّ
الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)
وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾([90]).
·
في
الإنشاء: نحو قول الحلاج([91]):
[الطويل]
فَلَيتَكَ تَحلو وَالحَياةُ مَريرَةٌ
|
وَلَيتَكَ تَرضى وَالأَنامُ غِضابُ
|
ج-إذا اختلفت
الجملتان خبرا وإنشاء وأوهم الفصل خلاف المقصود. ومن ذلك سؤالك صديقك: هل شفي أبوك
؟ فجوابه: لا. شفاه الله، صحيح من الناحية البلاغية الموجبة للفصل بين الجملتين في
اختلافهما خبرا وإنشاء، حيث تقوم "لا" مقام الجملة الخبرية و"شفاه
الله" مقام الجملة الإنشائية المفيدة للدعاء. ولكن هذا الأسلوب خاطئ من
الناحية المعنوية، لهذا وجب
الوصل بين الجملتين تفاديا لفهم غير مقصود، فيكون الجواب: لا وشفاه الله.
3-مواطن الفصل: يجب في خمسة مواضع: إذا تحقق بين الجملتين كمال الاتصال، أو كمال
الانقطاع، أو شبه كمال الاتصال، أو شبه كمال الانقطاع، أو التوسط بين الكمالين.
1-كمال الاتصال: وهو أن يكون بين الجملتين اتحاد معنوي؛ بأن تكون الثانية بدلا من الأولى،
أو بيانا لها، أو مؤكدة لها.
أ-البدل: ويقتضيه كون
الجملة الثانية أوفى بالمطلوب من الأولى. نحو قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا
الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132)
أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ﴾([93]).
فقد أبدلت الثانية من الأولى تنبيها إلى نعم الله تعالى على عباده، والثانية أوفى
بالمطلوب مع اشتمالها على التفصيل. فبين الجملتين ترابط قوي وكمال اتصال لا تحتاج
معه إلى ربط بالواو.
ومنه قول الله عز
وجل: ﴿قَالَ
يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)
اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾([94]).
فصلت الجملة الثانية "اتبعوا من لا يسألكم" عن الأولى "اتبعوا
المرسلين" لأن الثانية بمنزلة بدل من الأولى، وهي أوفى بالمطلوب، أي تأدية
المعنى.
ب-البيان:
والداعي إليه خفاء الأولى، والمقام يستدعي بيانا قصد إزالة الخفاء. ومن ذلك قوله
تعالى: ﴿فَوَسْوَسَ
إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ
وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى﴾([95]).
ففي الجملة الأولى "وسوس" خفاء وإبهام، وفي الثانية "هل أدلك على
شجرة الخلد" بيان وتوضيح للقسم الأول والبيان والمبين كالشيء الواحد فلا يعطف
أحدهما على الآخر لما بينهما من قوة الترابط وكمال الاتصال.
ج-التوكيد:
وذلك لزيادة التقرير أو لدفع توهم أو غلط، سواء أكان التوكيد لفظيا أو معنويا. ومن
التوكيد اللفظي قوله تعالى: ﴿فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ
رُوَيْداً﴾([96]).
ومن التوكيد المعنوي قوله تعالى: ﴿وَقُلْنَ
حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾([97]).
فالجملة الثانية تأكيد للأولى فإذا لم يكن بشرا فهو شيء آخر مبهم وإثبات كونه ملكا
تأكيد للشق الأول من العبارة وتوضيح للإبهام وتحقيق لنفي كونه بشرا.
2-كمال الانقطاع:
ويكون بين جملتين مختلفتين خبرا وإنشاء، أو متباينتين في المعنى:
أ-الفصل بين جملتين
تختلفان خبرا وإنشاء:
-الأولى خبرية
والثانية إنشائية، كقول ابن المعتز: [الخفيف]
لَستُ مُستَسقِياً لِقَبرِكَ غَيثاً
|
-الأولى إنشائية
والثانية خبرية، ومنه قول الشاعر([99]):
[البسيط]
لاَ تحسبِ المجدَ تَمْراً أنت آكلُه
|
لن تبلغَ المجد حَتَّى تَلْعَق الصَّبِرَا
|
ب-الفصل بين جملتين تختلفان في المعنى، كقولنا: أدرس في الكلية، زيد شاعر،
فمعنى الجملتين مختلف ولا تناسب بينهما، إذ لا علاقة بين الدراسة في الكلية
وشاعرية زيد. وهذه العبارة تفتقر إلى النسقية المطلوبة في البلاغة، وقد جئنا بها
للتمثيل فقط، وإلا فهي فاسدة سواء بالعطف أو بدونه.
3-شبه كمال الاتصال: كأن تكون الجملة الثانية جوابا عن سؤال ناشئ عن الجملة الأولى، فتفصل
الثانية عنها كما يفصل الجواب عن السؤال. كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا
أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ
رَبِّي﴾([100]).
كأنه قيل: هل النفس أمارة بالسوء ؟ فقيل: نعم، إن النفس لأمارة بالسوء. ومن ذلك
قول الشاعر: [الخفيف]
قَالَ لِي كَيْفَ أَنْتَ قُلْتَ عَلِيلُ
|
4-شبه كمال الانقطاع: وهو أن تسبق الجملة بجملتين يصح عطفها على إحداهما لوجود مناسبة، ولا يصح
عطفها على الأخرى حتى لا يفسد المعنى، فيترك العطف دفعا للوهم. ومن ذلك قول
الشاعر: [الكامل]
وتَظُنُّ سَلْمَى أَنَّنِي أَبْغِي بِها
|
بَدَلاً أُراها في الضلال تهيمُ
|
فجملة "أراها" يصح عطفها على "تظن" لكن لا يمنع هذا من
توهم العطف على جملة "أبغي بها" فتكون هذه الجملة أيضا من مظنونات سلمى،
مع أنه ليس مرادا؛ أي ليس المراد عطف جملة "أراها" على جملة
"تظن".
5-التوسط بين الكمالين: ويكون ذلك في عدم القصد إلى إشراك الجملتين في الحكم لوجود مانع. كقوله
تعالى: ﴿وَإِذَا
لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ
قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾([102]).
فجملة "اللهُ يستهزئ بهم" لا يصح عطفها على جملة "إنا معكم"
لاقتضائه أنه من مقولهم، ولا على جملة "قالوا" لاقتضائه أن استهزاء الله
بهم مقيد بحال خلوهم إلى شياطينهم.
([1])- أبو ذؤيب الهذلي (27هـ) خويلد
بن خالد بن محرث أبو ذؤيب من بني هذيل بن مدركة المضري، شاعر فحل، مخضرم، أدرك
الجاهلية والإسلام، وسكن المدينة واشترك في الغزو والفتوح، وعاش إلى أيام عثمان.
أشهر شعره عينية رثى بها خمسة أبناء له أصيبوا بالطاعون في عام واحد مطلعها:
"أمن المنون وريبه تتوجع". قال البغدادي: هو أشعر هذيل من غير مدافعة.
([10])- عبد الله بن شبرمة الضبي (144
هـ) عبد الله بن شبرمة بن الطفيل بن حسان بن المنذر من بني بكر بن سعد بن ضبة.
شاعر، فقيه. ولد في أواخر عهد معاوية، ونشأ على حفظ القرآن ورواية السنة، روى عن
أنس بن مالك، وأبي زرعة، وأبي معشر وغيرهم من التابعين، وروى عنه الشعبي، ومحمد بن
فضيل، وابن عيينة، وغيرهم. قال حماد بن زيد: ما رأيت كوفيا أفقه من ابن شبرمة.
تولى قضاء الكوفة.
([11])- قال العباسي في معاهد
التنصيص: "وشيبان بن ذهل وشيبان بن ثعلبة قبيلتان، والضال والسلم: شجرتان من
شجر البادية، وفردا: منصوب على المدح أو الحال. والمعنى: هذا المشار إليه صاحب
الاسم المشهور إذا ذكر رجلا فردا في محاسنه وفضائله من نسل شيبان وأولاد هذه
القبيلة المقمين بالبادية، والشاهد فيه: تعريف المسند إليه بإيراده اسم إشارة متى
صلح المقام له واتصل به غرض وصلاحيته بأن يصح إحضاره في ذهن السامع بواسطة الإشارة
إليه حسا...".
([46])- قال في مجمع الأمثال:
"شر أهر ذا ناب يقال: أهر، إذا حمله على الهرير. وشر، رفع بالابتداء وهو
نكرة، وشرط النكرة أن لا يبتدأ بها حتى تخصص بصفة كقولنا رجل من بني تميم فارس،
وابتدأ بالنكرة ههنا من غير صفة، وإنما جاز ذلك لأن المعنى ما أهر ذا ناب إلا شر.
وذو الناب السبع. يضرب في ظهور أمارات الشر ومخايله". [ما أوله شين].
([66])- الثعالبي (429 هـ) عبد الملك
بن محمد بن إسماعيل أبو منصور الثعالبي. من أئمة اللغة والأدب، من أهل نيسابور،
كان فراءا يخيط جلود الثعالب، فنسب على صناعته. واشتغل بالعلم والأدب فنبغ فيهما.
وصنف الكتب الكثيرة الممتعة، منها: (يتيمة الدهر-ط) أربعة أجزاء في تراجم شعراء
عصره، و(فقه اللغة-ط)، و(سحر البلاغة-ط)، و(من غاب عنه المطرب-ط)، و(غرر أخبار
ملوك الفرس-ط)، و(مكارم الأخلاق-ط).
([67])- محمد بن وهيب الحميري (225
هـ) أبو جعفر. شاعر مطبوع مكثر، من شعراء الدولة العباسية، أصله من البصرة، عاش في
بغداد وكان يتكسب بالمديح، ويتشيع، وله مراث في أهل البيت، وعهد إليه بتأديب الفتح
بن خاقان، واختص بالحسن بن سهل، ومدح المأمون والمعتصم، وكان تياها شديد الزهاء
بنفسه، عاصر دعبلا الخزاعي وأبا تمام.
([70])- طريف بن تميم بن عمرو بن عبد
الله بن جندب بن العنبر أبو سليط أبو عمرو. فارس الأغر وكان فارس عمرو بن تميم في
الجاهلية، وكان يلقب بالمحبر وبملقي القناع وابنه ربيعة بن طريف وقد اشترك في كثير
من أيام تميم وحروبها وهو قاتل شرحبيل الشيباني وقد قتل طريف يوم مبايض بيد ابن
شرحبيل. وله شعر في الأصمعيات.
([81])- أحمد شوقي (1351 هـ) أحمد بن
علي بن أحمد شوقي. أشهر شعراء العصر الأخير، يلقب بأمير الشعراء، مولده ووفاته بالقاهرة،
نشا في ظل البيت المالك بمصر، وتعلم في بعض المدارس الحكومية، وأرسله الخديوي
توفيق سنة 1887م إلى فرنسا، فتابع دراسة الحقوق في مونبلي، واطلع على الأدب
الفرنسي عالج أكثر فنون الشعر: مديحا، وغزلا، ورثاء، ووصفا، وهو أول من جود القصص
الشعري التمثيلي بالعربية وقد حاوله قبله أفراد، فنبذهم وتفرد.
([83])- قال ابن الأثير الكاتب في
المثل السائر: "ومما ورد من هذا الباب قوله تعالى: "خذوه فغلوه ثم
الجحيم صلوه" فإن تقديم الجحيم على التصلية وإن كان فيه تقديم المفعول على
الفعل إلا أنه لم يكن ههنا للاختصاص، وإنما هو للفضيلة السجعية، ولا مراء في أن
هذا النظم على هذه الصورة أحسن من أن لو قيل خذوه فغلوه ثم صلوه الجحيم".
[المثل السائر: ص 22/ج 2].
([91])- الحلاج (309هـ) الحسين بن
منصور الحلاج. فيلسوف، عده البعض في كبار المتعبدين والزهاد وعده آخرون في زمرة
الزنادقة والملحدين. أصله من بيضاء فارس، ونشأ بواسط العراق، وظهر أمره سنة 299
فاتبع بعض الناس طريقته في التوحيد والإيمان. وكثرت الوشايات به إلى المقتدر العباسي فأمر بالقبض عليه فسجن وعذب وضرب وقطعت
أطرافه الأربعة ثم قتل وحز رأسه وأحرقت جثته وألقى رمادها في نهر دجلة ونصب رأسه
على جسر بغداد. (وينسب البيت كذلك لأبي فراس الحمداني).
([99])- يقول المرزوقي في شرحه
للحماسة لما أورد هذا البيت ضمن مقطوعة: أنشده رجل من بني أسد، ثم يقول: وقوله لا
تحسب المجد تقريع، والمراد: لا تطنن المجد يدرك بالسعي القصير، واستعمال التعذير،
وعلى ملازمة الراحة دون توطين النفس على الكد الشديد والمجاهدة؛ فإنه لن ينال إلا
بتجرع المرارات دونه، واقتحام المعاطب بسببه. ويقال: لعقت الصبر لعقا. واسم ما
يعلق هو اللعوق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق