هو التعبير عن
المعاني الكثيرة باللفظ القليل مع الإبانة والإفصاح. وهو نوعان: إيجاز قصر، وإيجاز
حذف.
1-إيجاز القصر:
أ-ما تكون الجملة فيه
مستوفية لمقتضياتها لكنها معللة بمقدمات مقدرة. ومنه قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي
الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾([2]).
وتقديره: القصاص ردع عن القتل، وبيان ذلك أن الإنسان إذا هم بقتل آخر فتذكر أن
قتله يوجب القتل ارتدع عن ارتكاب الفعل، فكان بمثابة من استفاد من حياة جديدة فيما
يستقبل بالقصاص. وهذه الآية الكريمة أوفى بالغرض من قول العرب: "القتل أنفى للقتل"([3])
وتجاوزته بوجوه:
-فيما قالوه تكرار،
والنظم القرآني لا تكرار فيه.
-ليس كل قتل نافيا
للقتل إلا إذا كان قصاصا.
-أن الآية تحمل دلالة
على الحياة بالمطابقة.
-أن الآية تتضمن
التصريح بالمطلوب؛وهو الحياة، فكان ذلك أزجر عن القتل بغير حق.
-أن الآية الكريمة أوجز
من القول المذكور.
ب-ما يؤتى فيه بألفاظ
دالة على معنى أو معاني مجملة، إذا فصل أو فصلت صارت معاني كثيرة. ومن ذلك قوله
تعالى: ﴿خُذِ
الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾([4]).
فقد جمعت الآية الكريمة مكارم الأخلاق؛ من رفق وتسامح وغض للطرف عن المحارم والصبر
والحلم.
2-إيجاز الحذف:
ويكون بحذف كلمة أو جملة أو أكثر من العبارة مع قرينة تعين المحذوف. وهذا النوع لا
يكون إلا فيما زاد معناه على لفظه. ولذلك قيل: "هو الاستغناء بما ذكر عما لم
يذكر".
أ-حذف كلمة:
ومنه قوله تعالى: ﴿قَالُوا
تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ﴾([5]).
والتقدير: لا تفتؤ. ومنه قول امرئ القيس: [الطويل]
فَقُلتُ يَمينَ اللهِ أَبرَحُ قاعِداً
|
وَلَو قَطَعوا رَأسي لَدَيكِ وَأَوصالي
|
والتقدير: لا أبرح. ومنه قوله تعالى: ﴿وَاسْأَلِ
الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا﴾([6]).
والتقدير: أهل القرية وأصحاب العير. ومن ذلك قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾([7]).
أي: تناول الميتة.
ب-حذف جملة: ومنه
قوله تعالى: ﴿كَانَ
النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ﴾([8]).
والتقدير: فاختلفوا فبعث الله... ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذِ
اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ
مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً﴾([9]).
والتقدير: فضرب فانفجرت.
ج-حذف أكثر من جملة:
ومنه قوله تعالى: ﴿وَقَالَ
الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُم
بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ﴾([10]).
والتقدير: فأرسلون إلى يوسف لأستعبره الرؤيا، فأرسلوه إليه فأتاه وقال:
"يوسف...".
3-دواعي الإيجاز:
من أهم دواعي الإيجاز: ضيق المقام، وتسهيل الحفظ، تيسير المعنى الكثير باللفظ
القليل، تجنب الضجر والسآمة.
2-الإطناب:
والإطناب في اللغة:
مصدر أطنب؛ يقال أطنب في كلامه وطول ذيوله. وفي الاصطلاح: هو تأدية أصل المراد
بلفظ زائد لفائدة. أو بعبارة أخرى: زيادة اللفظ على المعنى بغية تحصيل فائدة معينة
من القول. نحو قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ
الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَآئِكَ رَبِّ
شَقِيّاً﴾([11]).
أي: كبرت.
فقد أراد زكرياء عليه
السلام أن يخبر بكبره فزاد في الألفاظ لفائدة هي: إظهار ضعفه، وتأكيد الوهن، ولو
اكتفى بالقول: قد كبرت لأفاد الكلام التقدم في السن فقط، دون الإحالة على الضعف.
وإذا لم تتحصل
الفائدة كان الكلام حشوا، أما إذا لم تتعين الفائدة بدقة كان الكلام تطويلا.
ومن الحشو قول زهير
بن أبي سلمى: [الطويل]
وَأَعلَمُ عِلمَ اليَومِ وَالأَمسِ قَبلَهُ
|
وَلَكِنَّنِي عَن عِلمِ ما في غَدٍ عَمي
|
ومن التطويل قول
الحطيئة: [الطويل]
أَلا حَبَّذا هِندٌ وَأَرضٌ بِها
هِندُ
|
وَهِندٌ أَتى مِن دونِها النَّأْيُ وَالبُعدُ
|
والشاهد في المثال الأول: قوله: "والأمس قبله". فلفظ قبله معلوم
من لفظ الأمس. وفي المثال الثاني قوله: النأي والبعد وهما يحملان معنى واحدا.
أقسام الإطناب:
وأهمها تسعة: الإيضاح بعد الإبهام، التوشيع، ذكر الخاص بعد العام، التكرار،
الاعتراض، الاحتراس، الإيغال، التذييل.
1-الإيضاح بعد الإبهام: ويكون لأجل تقرير المعنى في ذهن السامع عن طريق صورتين مختلفتين: الأولى
مبهمة والثانية موضحة. وعندئذ يقع في النفس أحسن موقع. ومن ذلك قوله تعالى: ﴿فَوَسْوَسَ
إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ
وَمُلْكٍ لا يَبْلَى﴾([12]).
فوسوسة الشيطان في الصورة الأولى مبهمة، توضحها الصورة الثانية.
ومن ذلك أيضا قوله
تعالى: ﴿وَقَضَيْنَا
إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ﴾([13]).
فقد أبهمت الآية ما قضى به إلى لوط عليه السلام "ذلك الأمر" ثم فصلته
وبينته: "أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين"، ففي الإبهام إثارة للمخاطب
وتحريك لتطلعه، وفي التوضيح إراحة وتقرير للمعنى.
2-التوشيع:
وهو أن يؤتى في آخر الكلام بمثنى مفسر بمفردين أحدهما معطوف على الآخر ليرى المعنى
في صورتين، يخرج بهما من الخفاء إلى التجلي. نحو قوله صلى الله عليه وعلى آله
وسلم: «يشيب ابن آدم وتشب معه خصلتان: الحرص وطول الأمل». وقوله r: «الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنب». ومنه قول ابن المعتز:
[الطويل]
سقتْنيَ في ليلٍ شبيهٍ بشَعْرِها
فما زلتُ في ليلين: شَعْرٍ وظُلْمَة |
شبيهةَ خدَّيْها بغيرِ رقيب
وشمسين: من خَمْرٍ ووجهِ حبيبِ |
3-ذكر الخاص بعد العام: وفائدته التنبيه على فضل الخاص حتى كأنه-لرفعته-جنس آخر عما قبله. ومن
ذلك قوله تعالى: ﴿حَافِظُوا
عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾([14]).
فالصلاة الوسطى داخلة في عموم الصلاة، وقد خصت بالذكر بعد العام تنبيها إلى مزيتها
وزيادة فضلها.
4-ذكر العام بد الخاص:
وهو إفادة العموم مع العناية بشأن الخاص، نحو قوله تعالى حكاية عن نوح عليه
السلام: ﴿رَبِّ
اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾([15]).
فلفظ: "لي ولوالدي" دخل معناه في عموم المؤمنين والمؤمنات.
5-التكرار:
وهو ذكر الشيء مرتين أو أكثر لأغراض منها:
-قصد الاستيعاب: نحو:
قرأت الكتاب فقرة فقرة، وفهمته سطرا سطرا.
التردد: وهو تكرار
اللفظ متعلقا بغير ما تعلق به أولا. نحو: (السخي قريب من الله، قريب من الناس،
قريب من الجنة، والبخيل بعيد من الله، بعيد من الناس، بعيد من الجنة).
-التلذذ بذكره: نحو
قول الشاعر: [الطويل]
سقى الله نجداً والسلام على نجدِ
|
ويا حبذا نجدٌ على القرب والبعدِ
|
6-الاعتراض: وهو توسط لفظ بين أجزاء جملة أو بين جملتين مرتبطتين معنى للإيضاح.
والجملة الاعتراضية لا محل لها من الإعراب، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَيَجْعَلُونَ
لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ﴾([17]).
ومنه قول الشاعر: [السريع]
إِنّ الثمانِينَ وَبُلِّغْتَهَا
|
قَدْ أَحْوَجَتْ سمْعي إِلى تَرْجُمَانْ
|
فقد وقع الاعتراض في الآية بقوله:-سبحانه-، وسبحان جملة لأنها واقعة موقع
المصدر الذي هو التنزيه. والمعنى: أنزهه تنزيها.
واعتراض الشاعر بجملة: -وبلغتها-تأدبا ودعاء فبلغتها (بفتح التاء) بمعنى:
بلغك الله إياها. والكلام هنا موجه إلى المخاطب.
7-الاحتراس: وهو التخلص بما يوهم خلاف المقصود. ويكون حينما يأتي المتكلم بمعنى يمكن
أن يدخل عليه فيه لوم. ويأتي بما يخلصه منه. ومن ذلك قول ابن المعتز: [الطويل]
صَبَبنا عَلَيها-ظالِمينَ-سِياطَنا
|
فَطارَت بِها أَيدٍ سِراعٌ وَأَرجُلُ
|
فلو لم يعترض بقوله: "ظالمين" لأوهم أن فرسه غير أصيلة لا تجري
إلا بالسياط، لكنه فطن فأحسن التخلص من هذا المعنى غير المراد.
8-الإيغال: وهو إنهاء البيت من الشعر بعبارة يتم المعنى بدونها، لكنها ذات وظيفة
إيقاعية، بحيث تعطي القافية وتضيف إلى المعنى معنى زائدا. ومن ذلك قول الخنساء:
[البسيط]
وَإِنَّ صَخراً لَتَأتَمُّ الهُداةُ بِهِ
|
كَأَنَّهُ عَلَمٌ في رَأسِهِ نارُ
|
فقد تم المعنى بقولها: كأنه علم (أي جبل). لكنها لم تقف عند هذا الحد
فأوغلت بقولها: "في رأسه نار"، فأعطت البيت بذلك قافية وأضافت معنى
جديدا، فأخوها ليس كالجبل فحسب، بل يشبه جبلا في قمته نار.
9-التذييل: وهو تعقيب
جملة بجملة تشمل معناها تأكيدا لها، وهو نوعان: جار مجرى المثل لاستغنائه عما
قبله. أو غير جار مجراه لعدم استغنائه عما قبله، (أي: لا يستقل بمعناه):
-الجاري مجرى المثل: كقوله تعالى: ﴿وَقُلْ جَاءَ
الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً﴾([18]).
فعبارة (إن الباطل كان زهوقا) مستقلة بمعناها عما قبلها.
-التذييل غير الجاري
مجرى المثل: كقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا
كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ﴾([19]).
فقوله: (هل نجازي إلا الكفور) غير مستقل بمعناه عما قبله، كون لفظة "نجازي"
تحمل معنيين هما الثواب والعقاب ولولا عبارة "بما كفروا" لما فهم من
اللفظ معنى العقاب.
3-المسـاواة:
وهي التعبير بألفاظ
مساوية للمعاني دون زيادة أو نقص. والمساواة هي التوسط بين الإيجاز والإطناب.
ومنها قوله تعالى: ﴿وَلا يَحِيقُ
الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ﴾([20]).
وقوله r: «الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور متشابهات».
وكذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذَا
رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى
يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾([21]).
ومما يستشهد به
البلاغيون قول زهير: [الطويل]
وَمَهما تَكُن عِندَ اِمرِئٍ مِن خَليقَةٍ
|
وَإِن خالَها تَخفى عَلى الناسِ تُعلَمِ
|
وأخافكم كي تُغمدوا أسيافكم
|
إن الدم المعتر يحرسه الدم
|
فقوله "إن الدم المعتر يحرسه الدم" أحسن مما ورد عن العرب من
قولهم، "القتل أنفى للقتل" [في الصناعة المعنوية].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق