السبت، 23 يوليو 2016

علم المعاني



بسم الله الرحمن الرحيم
تقديـم
علم المعاني قسم من أقسام البلاغة الثلاثة:المعاني والبيان والبديع. وقد ميز السكاكي([1]). في كتابه "مفتاح العلوم" بين هذه الأقسام، وجعل كل واحد منها علما قائما بذاته، بعد أن استفاد الفكرة من كتب عبد القاهر الجرجاني([2])، الذي تناول الدرس البلاغي في شموليته معتمدا على مفهوم "النظم"، حيث اعتبر الألفاظ قوالب للمعاني، إذ الكلام مؤلف "من لفظ حامل ومعنى به قائم ورباط لها ناظم"، وسوف نقف على مفهوم النظم بعد التخلص من مفهوم "علم المعاني".
لقد عرّف السكاكيُّ علم المعاني بقوله: "هو تتبع خواص تراكيب الكلام في الإفادة، وما يتصل بها من الاستحسان وغيره، ليحترز بالوقوف عليها من الخطأ في تطبيق الكلام على ما يقتضي الحال ذكره".

والقصد من تراكيب الكلام لدى السكاكي هي التراكيب الصادرة عمن له القدرة على التمييز والمعرفة. أي "تراكيبُ البلغاء"، دون سواهم ممن يُنَزَّل كلامهم منزلة الحيوانات. 
أما خاصية التركيب فالقصد منها مفهوم الكلام وما يسبق إلى الأذهان عند سماع ذلك التركيب الصادر عن البلغاء، والفهم بالضرورة يخص ذوي الفطرة السليمة.
إلا أن التعرض لخواص تراكيب الكلام موقوف على التعرض لتراكيبه، حتى يُحترز من الخطأ في مراعاة مطابقة "المقال لمقتضى الحال".
والحديث عن مقتضى الحال ما هو إلا ربط الخطاب بالسياق التداوليِّ ذي الأبعاد التواصلية في الخطاب عموما. الأمر الذي يجعل لكل مقام مقالا.
ويوضح ذلك قول السكاكي: "لا يخفى عليك أن مقامات الكلام متفاوتة؛ فمقام الشكر يباين مقام الشكاية، ومقام التهنئة يباين مقام التعزية، ومقام المدح يباين مقام الذم، ومقام الترغيب يباين مقام الترهيب (...) وكذا مقامُ الكلام مع الذكي يغاير مقام الكلام مع الغبي، ولكل من ذلك مقتضًى غير مقتضى الآخر".
أما مقتضى الحال فيتصل بمصادفة لكلام لما يليق به كارتفاع شأنه في حالة القَبول والاستحسان.
وصفوة القول أن علم المعاني يقوم على أساسين:
1-تركيبُ الكلام.
2-مقتضى الحال.
وللتركيب علاقة وطيدة بالأسلوب والصياغة. أما مقتضى الحال فيعني: وضع الكلام المناسب في المقام المناسب. ولأن الأشكال اللغوية قليلة بالمقارنة مع المقامات التي تستدعي توظيف الوحدات المعجمية وفقا لقواعد النحو قصد التعبير عما يتطلبه المقام، فإن التوسع يقتضي تعدد الدلالات حسب الأنساق التي تحوزها الألفاظ حسب ورودها في سياقات مختلفة. وعلى هذا الأساس؛ تحتمل الألفاظ نوعين من المعاني:  
1-المعاني الأول: أو المعاني الوضعية التي لا تتجاوز حدود ما توفره القواميس.
2-المعاني المقامية: وهي ذات صلة بالمقام الذي ترد فيه الألفاظ، ويطلق عليها "مقتضى الحال"؛ كأن تفيد المبالغة في المدح تنقيصا من قيمة الممدوح.
وتتوسط بين المعاني الوضعية والمعاني المقامية مقاصد المتكلم المرتبطة بالمقام.
وقد قسم ابن البناء المراكشي([3]) في كتابه "الروض المريع في صناعة البديع" دلالة الألفاظ إلى:
1-دلالة التضمن: وهي دلالة اللفظ على جزء المسمى، كدلالة لفظ البيت على السقف([4]).
2-دلالة المطابقة: وهي دلالة اللفظ بوضعه جملة على المعنى؛ كدلالة البيت على جملة البيت.
3-دلالة الالتزام: وهي دلالة اللفظ على لازم المسمى كدلالة لفظ الحائط على الأساس، وكذلك دلالة لفظ الفعل على الفاعل.
وبذلك يكون الكلام على ضربين، حسب عبد القاهر الجرجاني:
1-ضرب تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده.
2-وضرب لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، بل تجد لمعناه معنى آخر. وسماه الجرجاني "معنى المعنى". ويرتبط الضرب الأول بالثاني، فالوصول إلى المعنى في الضرب الأول يقتصر على دلالته الوضعية. أما الوصول إلى المعنى في الضرب الثاني فيقتضي دلالة عقلية تنطلق من الأساس الوضعي "للفظة" قبل الخلوص إلى المعنى العقلي، أو المعنى الثاني أو معنى المعنى.
اللفظ والمعنى والنظم:
أثير كثير من التساؤلات حول مسألة اللفظ والمعنى، وقد تحدث عنها الجاحظ([5]) في مواضع شتى من كتابه "البيان والتبَين"، يقول: "ثم اعلم -حفظك الله- أن حكم المعاني خلاف حكم الألفاظ لأن المعاني مبسوطة إلى غير غاية وممتدة إلى غير نهاية وأسماء المعاني مقصورة ومعدودة ومحصلة محدودة"([6]). وفي موضع آخر يقول: "المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء وفي صحة الطبع وجودة السبك وإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير".
وكانت للجاحظ إفادات كثيرة حول النظم فقد ألف كتابا سماه "نظم القرآن" لكنه فقد، وأشار إليه صاحبه كثيرا في البيان والتبيين. والنظم لدى الجاحظ بمعنى ضم الألفاظ بعضها إلى بعض بطريقة مخصوصة.
واستغل عبد القاهر الجرجاني هذه الإشارات، واستطاع من خلال حديثه عن النظم أن يحدد معالم الإنشائية بشكل أكثر جلاء عن طريق ضبط آليات التعامل مع النصوص وتفسير الظواهر الإبداعية من منطلق "توخي معاني النحو بين الكلم"، وجعل النظم محورا تدور حوله البلاغة كلها، إذ البلاغة عنده هي النظم لا شيء سواه.
وبهذا الطرح الجديد يكون الجرجاني قد وضع حدا لإشكال اللفظ والمعنى، الذي استأثر بكثير من الجهد لدى النقاد العرب أثناء محاولاتهم تحديد مواطن المزية في النصوص.
وجاءت فكرة النظم لتضرب صفحا عن المحاولات السابقة وتختار منهجا فريدا ينظر إلى اللفظ داخل السياق لا خارجه.
إن السياق هو الذي يحدد قيمة الكلمة المفردة ويجعلها دالة، ثم إن أي تغيير في السياق يؤدي حتما إلى تغيير المعنى. وعلى هذا الأساس بنى الجرجاني فكرته عن إعجاز القرآن. وجعل "النظم" محورا للتصور النقدي للنصوص الإبداعية بصفة عامة.
إن الجودة لا تعزى إلى اللفظ وحده، ولا إلى المعنى مجردا، بل هي في حسن النظم الذي تتفاضل به الأساليب، وترقى منازلها "حتى تنتهي إلى حيث تنقطع الأطماع، وتحسر الظنون، وتسقط القوى، وتستوي الأقدام في العجز"([7]).
إن نظرية النظم لدى الجرجاني حديث في اللفظ والمعنى، لكن ليس على طريقة من سبقوه. فاللفظ عنده له مرتبتان:
·       مرتبة لا يستفاد منها إلا صورته السمعية، أي أصوات الحروف المركبة له.
·       ومرتبة يحمل فيها دلالة معنوية
والجرجاني بهذا التفريق، يروم التركيز على كون النظم لا يمكنه أن يقع في الألفاظ المجردة، وإنما يقع في المعاني التي تحملها الألفاظ إذ "ليس الغرض بنظم الكلم أن توالت ألفاظها في النطق، بل أن تناسقت دلالتها، وتلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل"([8]).
والدليل على ذلك أن هذه الألفاظ لو سلبت دلالتها على المعاني لما كان بعضها أحق بالتقديم من بعض، ولما استوجبت ترتيبا أو نظما.
إن اختصاص النظم بالمعاني لدى الجرجاني أمر توجبه الألفاظ، فاللفظ لا يودع إلا حيث يؤدي معنى يقتضيه ما قبله وما بعده، إذ الألفاظ تبع للمعاني في مواقعها.
"فإذا وجب لمعنى أن يكون أولا في النفس وجب للفظ الدال عليه أن يكون مثله أولا في النطق".
إن الجرجاني بهذا لم يجد في الكلمة المفردة سرا من أسرار الجمال، ولا وجد لها قيمة من قيم التعبير في ذاتها، بل من خلال السياق الذي ترد فيه.
إن السعي -إذا- إلى مراتب البلاغة العليا يقتضي من الشاعر أو الكاتب أن يتمرس على كيفية وضع كلامه الوضع الذي يقتضيه علم النحو، ويجتهد في التمسك بقوانينه ومناهجه فلا يزيغ عنها، وذلك لأن الجودة في قوة النظم وليس النظم إلا "أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله وتعرف مناهجه التي نُهِجَتْ فلا تزيغَ عنها"([9]).
وأخيرا، إن توخي معاني النحو ليس يعني التزام الصحيح من الحركات الإعرابية فحسب، وإنما له صلة بالصياغة والتهدي إلى الأنساق التي تقر بها الألفاظ قرارها، حتى تدق معانيها تبعا لدقة وضعها حسب ما يقتضيه ما قبلها وما بعدها.


([1])- يوسف بن أبي بكر بن محمد، أبو يعقوب السكاكي من أهل خوارزم، علامة إمام في العربية والمعاني والبيان والأدب والعروض والشعر، متكلم فقيه متفنن في علوم شتى، وهو أحد أفاضل العصر الذين سارت بذكرهم الركبان، ولد سنة أربع وخمسين وخمسمائة، وصنف مفتاح العلوم في اثنى عشر علما.
     أحسن فيه كل الإحسان وله غير ذلك، وهو اليوم حي ببلده خوارزم. (معجم الأدباء لياقوت-حرف الياء-). ولقد ذكر بعض أهل التراجم أنه توفي سنة 626هـ .
([2])- عبد القاهر بن عبد الرحمن، أبو بكر الجرجاني النحوي المشهور؛ أخذ النحو عن أبي الحسين محمد بن علي الفارسي، وكان من كبار أئمة العربية، صنف المغني في شرح الإيضاح في نحو ثلاثين مجلدا، والمقصد في شرح الإيضاح أيضا في ثلاثة مجلدات، وإعجاز القرآن وكتاب عروض، والعوامل المائة والمفتاح وشرح الفاتحة في مجلد، وله العمدة في التصريف والجمل والتلخيص شرحه، وكان شافعي المذهب أشعري الأصول، مع دين وسكون؛ توفي سنة إحدى وسبعين وأربعمائة، رحمه الله. (ابن شاكر الكتبي في "فوات الوفيات" -حرف العين-).
وكان ممن أرسى أركان علم البلاغة في كتابيه: دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة. وهو صاحب نظرية النظم. 
([3])- أحمد بن محمد بن عثمان الأزدي العدوي أبو العباس ابن البناء أخذ عن قاضي الجماعة أبي عبد الله محمد بن علي بن يحيى المراكشي وأبي عبد الله محمد بن أبي البركات المشرف وغيرهما وكان فاضلا عاقلا نبيها انتفع به جماعة في التعليم، وله من التواليف: التلخيص في الحساب في سفر واللوازم العقلية في مدارك العلوم في سفر و"الروض المريع في صناعة البديع" في سفر وكتاب في الأوقات وكتاب في الأنواء وغير ذلك. مات سنة 721. (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، للحافظ ابن حجر-حرف الألف-).
([4])- قال القزويني في الإيضاح: "وهو فن يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه ودلالة اللفظ إما على ما وضع له أو على غيره، والثاني إما داخل في الأول دخول السقف في مفهوم البيت، أو الحيوان في مفهوم الإنسان، أو خارج عنه خروج الحائط عن مفهوم السقف، أو الضاحك عن مفهوم الإنسان، وتسمى الأولى دلالة وضعية، وكل واحدة من الأخيرتين دلالة عقلية، وتختص الأولى بدلالة المطابقة والثانية بالتضمن، والثالثة بدلالة الالتزام". (الإيضاح في علوم البلاغة -باب في علم البيان-). 
([5])- الجاحظ (163-255هـ/780-869م) عمرو بن بحر بن محبوب الكناني (ولاء) الليثي أبو عثمان. كبير أئمة الأدب، ورئيس الفرقة الجاحظية من المعتزلة، مولده ووفاته بالبصرة فلج في آخر عمره. وكان مشوه الخلقة، مات والكتاب على صدره، قتلته مجلدات وقعت عليه. ولأبي حيان التوحيدي كتاب في أخباره سماه (تقريظ الجاحظ) اطلع عليه ياقوت وجمع محمد جبار المعيبد العراقي ما ظفر به متفرقا من شعره في (رسالة-ط). له تصانيف كثيرة منها: (الحيوان-ط) أربعة مجلدات، (البيان والتبيين-ط)، (سحر البيان-ط)، و(التاج-ط) ويسمى أخلاق الملوك، (والبخلاء-ط) وغيرها وهو كثير.  
([6])- البيان والتبيين، ج 1/76.
([7])- (الدلائل 35).
([8])- (الدلائل 94/50).
([9])- (الدلائل ص 81).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق